رسم للزعيم المصري الراحل سعد زغلول.(أرشيف)
رسم للزعيم المصري الراحل سعد زغلول.(أرشيف)
الخميس 14 ديسمبر 2017 / 20:19

خطب الرؤساء السابقين بين طبق "الكوسة" و"حلة" الملوخية

مع أن الاهتمام بطبع ونشر وتوزيع خطب الرئيس لم يتوقف خلال المرحلة الأولى من عهد «السادات»، إلا أنها افتقدت إلى جانب كبير من الاهتمام الذي كان يحيط بخطب عبد الناصر

أول ما كنت أفعله، حين أصل - لأول مرة - إلى عاصمة عربية، بمجرد أن استريح من عناء السفر، هو أن أغادر الفندق الذي أقيم فيه، لكي أطوف على أقدامي بشوارع المدينة وأتعرف على ملامحها، ومن أهمها بالنسبة إلي هي الأكشاك التي تبيع الصحف والمكتبات التي تعرض خلف واجهاتها الزجاجية، أحدث ما صدر في ذلك البلد من كتب، لأعود من جولتي فى شوارعها وأنا أحمل الوجبة الأولى مما أحرص - عادة على اقتنائه من كتب حالت الظروف دون وصولها إلى القاهرة، وفي مقدمتها بالنسبة للدول العربية - الثورية بالذات - سلسلة من الكتيبات والكتب والمجلدات التي تضم خطباً وأحاديث وتصريحات ومؤلفات قائد الثورة فى هذا البلد.

وكان وراء شغفي باقتناء الأعمال الكاملة لقادة الثورات والأحزاب السياسية العربية، أنني عثرت في مرحلة مبكرة من حياتي فى إحدى أسواق الكتب القديمة بالقاهرة، على مجموعة من الكتب والكتيبات تضم خطب سعد زغلول - زعيم ثورة 1919 المصرية - صدر معظمها فى حياته، وصدر بعضها الآخر بعد رحيله، بمبادرة ممن عاصروه أو زاملوه أو عملوا معه، ولم يقتصر على خطبه السياسية أثناء الثورة، بل ضم - كذلك - تجمعياً لحيثيات الأحكام التي أصدرها حين كان قاضياً، والمداخلات التي كان يدلي بها في المناقشات التي تدور حين كان عضواً بالجمعية التشريعية قبل الثورة، أو رئيساً للوزراء أو رئيساً لمجلس النواب بعد الثورة، وما كدت اقرأها حتى أدركت أهميتها كمصدر من مصادر فهم ودراسة الشخصيات التاريخية، والدوافع السيكولوجية والسياسية التي تؤثر في قراراتها، أو تدفعها لاتخاذ مواقفها السياسية.

وما لبث هذا الشغف بجمع خطب وآثار سعد زغلول، أن قادني لجمع خطب ومقالات ورسائل أسلافه من الزعماء ومن بينهم مصطفى كامل باشا، وخطب محمد فريد فضلاً عن خطب خلفائه، أمثال مصطفى النحاس، ومكرم عبيد وأحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي.. إلخ.

وعلى عكس ما كان يحدد قبل ثورة 1952، حيث كانت هذه الكتب تطبع وتنشر على نفقة الأحزاب السياسية التي يتولى رئاستها هؤلاء الزعماء، أو يشغلون مناصب مؤثرة فيها، أو تتولى نشرها وتوزيعها دور النشر الخاصة، فإن دور النشر المملوكة للدولة والصحف التي تأسست بعد شهور من صعود الضباط الأحرار إلى السلطة عام 1952، ثم مصلحة الاستعلامات التي تأسست في وقت قريب من ذلك، هي التي تولت بانتظام تجميع ونشر خطب قادة ثورة 23 يوليو 1952، وفي مقدمتها خطب وأحاديث وتصريحات زعيم الثورة جمال عبد الناصر التي صدرت أول مجموعة منها، عام 1959 فى عدة أجزاء عن سلسلة من الكتب كانت تصدر آنذاك بعنوان "اخترنا لك"، ثم تكرر نشر خطب عبد الناصر في طبعات مختلفة، توقف آخرها عند المجلد الذي يضم خطبه وتصريحاته حتى عام 1966، وتوقفت مصلحة الاستعلامات عن إصدار الجزءين الأخيرين منها بعد رحيل عبد الناصر عام 1970، ولا بد أن خشية محمد حسنين هيكل من أن تضيع الخطب والتصريحات التي أدلى بها عبد الناصر، في أعقاب هزيمة 1967، هي التي دفعته في العام التالي لرحيله، إلى إصدار الجزءين الأخيرين منها، اللذين يضمان الخطب التي ألقاها بين عامى 1966 و1970 عن مؤسسة "الأهرام" التي كان لا يزال يرأس مجلس إدارتها وتحريرها.

وكانت خطب عبد الناصر وأحاديثه وتصريحاته تلقى اهتماماً بالغاً من أجهزة الحكم في عهده، لا يقتصر على تكرار إذاعتها عقب إلقائها مرات عديدة عبر الإذاعة والتلفزيون، أو قيام عدد من الكتاب والصحفيين اللامعين، بالتعليق عليها وتحليلها في مقالات كانت تنشرها الصحف، بل يتعدى ذلك إلى تقرير هذه الخطب على وحدات التنظيمات السياسية التي تأسست في عهده، مثل "هيئة التحرير" و"الاتحاد القومي" و"الاتحاد الاشتراكي" و"منظمة الشباب" و"الاتحاد النسائي"».. إلخ، حيث كان المسؤولون عن هذه المنظمات يتولون كتابة تحليلات لمحتوى هذه الخطب يجري توزيعها على أعضاء هذه التنظيمات، أو مناقشتها في اجتماعاتها.

ومع أن الاهتمام بطبع ونشر وتوزيع خطب الرئيس لم يتوقف خلال المرحلة الأولى من عهد السادات، إلا أنها افتقدت إلى جانب كبير من الاهتمام الذي كان يحيط بخطب عبد الناصر خاصة حين اتجه - بعد عام 1976 - للأخذ بالتعددية الحزبية، وقام بحل الاتحاد الاشتراكي والمنظمات التابعة له، وعلى العكس من عبد الناصر وإلى حد ما السادات، فإن الرئيس مبارك لم يكن حريصاً على أن يبدو أمام جماهير المصريين والعرب في صورة المنظِّر الثوري أو أن يرتدي جلباب أصحاب النظريات، ولهذا لم تعن مصلحة الاستعلامات فى عهده بتجميع أو نشر خطبه وأحاديثه وتصريحاته بشكل متكامل أو منتظم.

وفى أحد الاجتماعات التي التقى فيها عدداً من المثقفين المصريين، انتقد أحدهم من المتحمسين لتأييد سياساته، عدم اهتمامه بأن يحشد حوله تياراً يؤيد هذه السياسات، عبر دراسته لخطبه وتصريحاته، مما أسفر - في تقديره - عن اقتصار الجدل السياسي فى مصر، على جناجين أحدهما "ناصري" والآخر "ساداتي" من دون أن يكون هناك تيار"مباركي" داعياً إياه إلى تجميع خطبه وتصريحاته وأنصاره من المثقفين لكى يقوموا بدور الشُرَّاح والمفسرين لما في هذه الخطب والتصريحات من أفكار سياسية عميقة، كفيلة بأن تحشد جماهير الشعب من حولها.. ولكن الرئيس مبارك لم يجد في الفكرة التي طرحها المثقف المذكور فى حماس مفتعل ما يدعوه للاهتمام بها، فقاطع صاحب الاقتراح قائلاً:

- بصراحة يا فلان أنا لا أجد أي أهمية لطبع هذه الخطب.. ولا أفهم ما الذي نريده بالضبط، فأرجو أن توضح لي الأمر بدلاً من اللف والدوران الذي حول رأسي إلى حلة ملوخية!

وضحك الحاضرون.. وضحك الرئيس.. بل وضحك صاحب الاقتراح، ربما لأنه أراد أن ينافق الرئيس بأن يقدم له طبقاً من "الكوسة" وأن يضيف إلى صفاته صفة المفكر، فإذا بالرئيس، يغرقه فى حلة من الملوخية حولته إلى مسخرة بين الجالسين.. أما أنا فما زلت أضحك كلما تذكرت هذه القصة، أو رأيت هذا الركن الضخم من مكتبتي الذي يحتشد بخطب الرؤساء السابقين!