دورية تركية في محيط إدلب.(أرشيف)
دورية تركية في محيط إدلب.(أرشيف)
الثلاثاء 8 مايو 2018 / 20:10

لم ينتصر ولم ينهزموا في سوريا البعيدة

هذه الترتيبات التي تنفرد بها تركيا، خلافاً لدول الجوار السوري الأخرى، تضع علامات استفهام حول هذا الاستثمار التركي، وأهدافه ومدى جدواه، بالإضافة إلى السؤال الأهم عن المدى الزمني لهذا الإنفاق، وعن مصدر تمويل هذا المشروع العملاق "غير الربحي"

كلا "الطرفين" في سوريا يستخدم مصطلح "الأراضي المحررة"، للدلالة على قراءته القريبة لليوم التالي. وكلاهما يستخدم مصطلح "شهيد" لقتلاه في الحرب الممتدة والمستمرة منذ سبع سنوات.

الحرب على سوريا، اليوم، تبدو كأنها مشهد مطوَّل من أفلام الخيال العلمي، أو المشهد الافتتاحي لفيلم "ذهب مع الريح"؛ الغبار والريح والوجوه الملوحة بالشمس، واليأس والنظرات الزائغة. وعندما تختار الحرب موعد نهايتها سيقدم المنتصر روايته، ليكرسها، كما جرت العادة عبر التاريخ، بينما يلوذ المهزوم بمحاولات نسيان مأساته، على أمل أن يقرأ أحدٌ ما روايته مع نصيب منخفض لدعم هذه الرواية تحت عنوان "كي لا ننسى".

التحليل السياسي لا يحمل جديداً، والوقائع العسكرية تشير إلى استمرار ما يسمى "الهندسة الديموغرافية"، التي تجد في الواقع مرتسمات لا يمكن إنكارها، على الأقل في ما يُدعى "سوريا المفيدة".

وافتراضياً، لا يبدو أن المنتصر سيكون كريماً. وفي معكوسها، إن كان للمعارضة نصيب من النصر، فلن تكون كريمة أيضاً. كما لا يبدو المهزوم، أياً يكن، بعيداً عن الروح الانتقامية إذا استمر سير الوقائع على ما هو عليه.

وإلى الآن، يبقى من دمشق انتظار تهجير ما تبقى من سكان مخيم اليرموك. ومن حمص، ما تبقى من سكان الرستن، في مشهد يغذِّي التشاؤم، دون أن يدل على أن نهاية مأساة السوريين قد اقتربت، خاصة أن لغز إدلب التي جمعت ما يقارب أربعة ملايين سوري ساكن ومهجَّر مرشح للتجلي في الأسابيع المقبلة بعد أن تسدل روسيا وحلفاؤها الستار على مناطق "خفض التوتر"، على اعتبار أن المناطق الأخرى أصبحت صافية ونقية طائفياً للطرف "المنتصر". وحينها لا تبقى حاجة لاستخدام مصطلح "خفض التوتر".

فعلياً، المشهد الحالي يذكِّر بـ"سوريا المفيدة" التي أوشكت أن تصبح كلها في قبضة النظام، بينما لم تستقر "سوريا غير المفيدة" في الشمال الغربي والجزيرة والمنطقة الجنوبية على ملامح منتصر، أو مهزوم.

ففي إدلب، لا يوجد ما ينفي احتمالات نشوب حرب كبيرة، على الرغم من أن المنطقة دخلت ضمن مناطق "خفض التصعيد" في آخر جولات أستانة. كما لا يوجد ما يشير إلى أن تركيا تضع عينها على المنطقة لفترة طويلة، كون همها الأساسي كان الأكراد في عفرين وشمال شرق حلب، وقد عالجت المسألة على طريقتها. ولأن إدلب منطقة نفوذ روسي تركي، يمكن توقع استمرار التفاهمات بين موسكو وأنقرة لتحييد المدنيين، عموماً، عن أي اعتداءات من طيران النظام الأسدي، على الأقل حتى إتمام ترحيل سكان كفريا والفوعة في اتجاه الزبداني أو القلمون الغربي، أو الغوطة.

في المنطقة الجنوبية، تبدو التفاهمات في "غرفة موك" أكثر استقراراً، ضماناً للرغبة الإسرائيلية، إلا في ما يتعلق بـ"جيش خالد بن الوليد" الداعشي الذي يبدو أنه لا يزعج إسرائيل، أو الأردن، أو النظام الأسدي. وعلى ذلك، لا تزال فصائل الجنوب المحسوبة على "الجيش السوري الحر" ملتزمة تماماً بما تقوله غرف المخابرات في "موك"، دون أن تتدخل تلك الفصائل بمعركة الغوطة الشرقية الأخيرة، أو بالترتيبات الأمريكية مع فصائل أخرى محيَّدة في بادية تدمر والمثلث الحدودي السوري الأردني العراقي.

وفي مناطق "درع الفرات"، تستكمل تركيا تهيئة بنية تحتية مهمة لتستوعب الملايين المهجرة، بتوفير المدارس والمستشفيات، وتأمين الكهرباء والمياه ووسائل الاتصال والطرق، بل شرعت بتدريب الأطباء السوريين المجنسين للعمل في المشافي هناك بنظام المناوبة، على أن يقيموا في المدن التركية الحدودية. والأمر نفسه ينطبق على المعلمين والمدرسين ممن تم منحهم الجنسية التركية.

هذه الترتيبات التي تنفرد بها تركيا، خلافاً لدول الجوار السوري الأخرى، تضع علامات استفهام حول هذا الاستثمار التركي، وأهدافه ومدى جدواه، بالإضافة إلى السؤال الأهم عن المدى الزمني لهذا الإنفاق، وعن مصدر تمويل هذا المشروع العملاق "غير الربحي" على ما يبدو، وحول وجود أسباب أخرى تنتظر تكريس الأمر الواقع، وانتظار فترة زمنية تسبق إجراء استفتاء يشبه استفتاء "لواء الإسكندرونة" عام 1939، الذي ضمت بموجبه تركيا اللواء إلى أراضيها، بالتواطؤ مع دولة الانتداب الفرنسي على سوريا وقتها.

هذا يعني أن كلمتي منتصر ومهزوم غير تامتي المعنى، بمعنى أن النظام الأسدي سيحظى بنصف انتصار، والمعارضة بنصف هزيمة، في المدى القريب، بينما تخطط كلٌ من تركيا، وإسرائيل، وإيران، وروسيا، وأمريكا، لعشرات السنوات. وإن نجحت تلك الخطط في البقاء عشرات السنوات ستتكرس فوضى الأمر الواقع الحالية، وتصبح حالة دائمة، أي أن توقعات التقسيم ستصبح واقعاً، وربما أسوأ من الواقع، عند الحديث عن إلحاق أجزاء من سوريا بدول أخرى، بما في ذلك الجولان الذي تراه إسرائيل جزءاً من فلسطين التي احتلتها وأنشأت فيها دولة الأمر الواقع.

قبل ذلك، وعلى حين تبدو القوى السورية، الآن، من وراء داعميها، مستسلمة للأمر الواقع، ستحاول أمريكا مقابل روسيا المحافظة على توازن رعب، كما ستحافظ إيران و"حزب الله" على صيغة تخويف الآخر من المبادأة بحرب، بحيث تكتفي إسرائيل بضربات نوعية دون المجازفة بإشعال حرب.