الأديب المصري طه حسين (أرشيف)
الأديب المصري طه حسين (أرشيف)
الخميس 31 مايو 2018 / 20:59

البحث العلمي الديني

توقف النائب العام المصري محمد نور مطولاً أمام المآخذ الأربعة التي سُجلت ضد كتاب "في الشعر الجاهلي" لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فدحض بمناقشة علمية رصينة ومحاورة منطقية هادئة ما ذهب إليه طه حسين فيما اعتبر مأخذاً عليه يستحق عنه اتهامه بجرم الطعن والتعدي على الدين.

من حق أي باحث مناقشة القضايا الدينية ما دام ملتزماً بأسس البحث العلمي وأغراضه، ولا يهم بعد ذلك إن أصاب فيما ذهب إليه أو أخطأ، ما دام ما يقوله مجرد آراء معروضة للنقاش والأخذ والرد

وانتقل النائب العام بعد ذلك إلى الشق القانوني من الشكوى، ورأى أن غرض المؤلف من كتابه لم يكن مجرد الطعن، وأن ما قاله واعتبر تعدياً إنما أورده في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، ثم قرر حفظ الشكوى المرفوعة ضد عميد الأدب العربي لعدم توفر القصد الجنائي.

حدث هذا في سنة 1927، وما يزال يتردد صدى الأوراق التي كتبها النائب العام المصري في كل مرة تثار فيها مسألة البحث العلمي في القضايا الدينية، حيث يسارع بعضهم إلى إطلاق الاتهامات ضد كل من يبحث في تلك القضايا، حتى مع التزامه بالأسس العلمية في بحثه وتوافر حسن النية في عمله.

فمن ناحية القانون، لا يمكن المسارعة إلى التلويح بمواده ضد كل بحث ودراسة وكتاب تتناول شأناً دينياً من دون العودة إلى شرّاح القانون، وإلا ما كان الكثير من القوانين مصحوباً بمذكرات إيضاحية تفوق صفحاتها بأضعاف صفحات القانون نفسه، وما كانت كل تلك المؤلفات الضخمة ذات الأجزاء الكثيرة لشرح وتفسير مواد قانونية قليلة، هذا فضلاً عن الرجوع إلى أحكام المحاكم العليا التي تفسّر القوانين أثناء تطبيقها على الوقائع المختلفة.

ولتقوم هكذا جريمة، أي التعدي على الدين، لابد أن تتوافر فيها كافة أركانها، ابتداءً بالعبارات التي من يُفهم منها التعدي، وانتهاءً بالقصد من تلك العبارات، إن كانت قد قيلت بغية التعدي المجرد المصحوب بسوء النية، أم اكتنف العبارات قصد آخر بعيد كل البعد عن مرامي الاعتداء، إذ ثمة فرق شاسع بين التعدي على الدين، وبين البحث الذي يستند إلى دليل، قوي أو ضعيف، ضمن نقاش علمي ملحوظ فيه حسن النية، والذي قد يكون متعارضاً مع فهم متوارث، أو تأويل، أو تفسير، أو استنباط، أو نقل، أو شرح بشري.

أما من ناحية النقاش في القضايا الدينية، فمن حق أي باحث مناقشة القضايا الدينية ما دام ملتزماً بأسس البحث العلمي وأغراضه، ولا يهم بعد ذلك إن أصاب فيما ذهب إليه أو أخطأ، ما دام ما يقوله مجرد آراء معروضة للنقاش والأخذ والرد.

ولو كان النقاش العلمي محظوراً في القضايا الدينية، لما كان للإسلام اليوم أكثر من نسخة، لكل واحدة منها نصوص تعبر عنها، وشخوص تمثلها، بدأت تظهر منذ فجر الإسلام، وأخذت النسخ تتمايز فيما بينها بتعاقب الزمان وتطور الآراء حتى غدت مذاهب عقائدية وفقهية قائمة بذاتها.

فهم الدين وطرحه بطريقة مختلفة عن الفهم السائد والطرح المتوارث، وهو فهم وطرح غير منزلين على أي حال ليكون لهما قدسية، يختلفان جذرياً عن النيل الرخيص من الدين، والذي لا يمكن أن ينزلق إليه من أفنوا سنين عمرهم في البحث والتحصيل، سواءٌ أصابوا أو أخطأوا بعد ذلك.