صورة مركبة لغلاف كتاب الرئيس المفقود والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.(أرشيف)
صورة مركبة لغلاف كتاب الرئيس المفقود والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.(أرشيف)
الأحد 1 يوليو 2018 / 19:12

عودة إلى الرئيس المفقود

كان الحادي عشر من سبتمبر لحظة فارقة، لا في تاريخ الشرق الأوسط، والعالم عموماً، بل في تاريخ الرواية البوليسية، وروايات الإثارة، أيضاً، حين عثر الكتاب الأمريكيون، والغربيون، أخيراً، على المكافئ الموضوعي الجديد "للشر" القديم

أشرنا، في معرض التعليق على رواية "الرئيس مفقود" للرئيس الأميركي كلينتون، وجيمس باترسون، أحد أهم كتّاب روايات الإثارة في بلاده، إلى أمرين لن يثيرا، بالضرورة، اهتمام القرّاء، ولكن فيهما ما يُحرّض المعنيين بالتحليل النفسي للسرد الروائي، على تفسير التباين بين شخصية ما في رواية، وشخصية صانعها، خاصة إذا كان الأخير شخصيّة عامة، وأضفي على الشخصية الروائية صفات مهنية، وعائلية، وأحياناً جسدية، تقترب أو تبتعد، بهذه الدرجة أو تلك، عن الشخصية الواقعية لصاحب النص نفسه.

وهذا، في الواقع، ما تجلى على مدار الأسابيع القليلة الماضية، على صفحات مرجعيات ثقافية وإعلامية مرموقة من طراز نيويورك تايمز ريفيو أوف بوكس، ولندن ريفيو أوف بوكس، حيث توقف النقّاد أمام حقيقة أن الرئيس كلينتون أضفى سمات مثالية تماماً، بالمعنى العائلي، والتاريخ العسكري، على شخصيته الروائية، أي الرئيس دونكان، وأن هذه الصفات تتنافى إلى حد بعيد مع سيرته الشخصية، التي وسمتها فضائح جنسية كادت تطيح به، وعلاقة متوترة بزوجة قوية، ناهيك عن عدم مشاركته في حروب، ولا اجتراحه لبطولات عسكرية.

وفي السياق نفسه، توقف النقّاد أمام الشخصية الروائية لإرهابي من أصول تركية، يدعى سليمان سندروك، يتزعم جماعة إرهابية تدعى "أبناء الجهاد"، ويخطط لهجمة إلكترونية قد تطيح بالولايات المتحدة في حال نجاحها. ففي الرواية يُوصف سندروك بالقومي التركي، "الذي لا يهتم بالإسلام"، لذا تبدو تسمية "أبناء الجهاد"، بحكم ما فيها من إحالات دينية، مفتعلة، ومن التوابل الشائعة في روايات الإثارة في الغرب هذه الأيام.

واللافت أن التوقف أمام شخصية سندروك، وحشر مفردة "الجهاد" في سياق مغاير ومُفتعل، لم يتحوّل إلى موضوع رئيس في قراءات النقّاد الأميركيين والغربيين عموماً، التي يمكن، في حال، توقفها أمام مفارقة كهذه، أن تكون مدخلاً صالحاً لقراءة كل ظاهرة روايات الإثارة، والروايات البوليسية الشائعة في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، هذه الأيام.

ففي هذا النوع من الروايات، ونحن نتكلّم هنا عن آلاف العناوين، على مدار عقدين من الزمن، وعن أكثر الكتب مبيعاً، ورواجاً، في صناعة النشر والكتاب، ناهيك عمّا يتحوّل منها إلى مسلسلات وأفلام سينمائية، يحظى موضوع الإرهاب بنصيب الأسد، ويكاد ينحصر في "الإسلام"، و"المسلمين"، خاصة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

ولن يجد الباحثون، في هذا الشأن، صعوبة في اكتشاف أن "الإسلام"، و"المسلمين"، قد احتلوا في هذا النوع من السرد مكان ومكانة الشيوعية، والشيوعيين، الروس بشكل خاص، في زمن الحرب الباردة.

فأبرز وأهم كتّاب روايات الإثارة، والروايات البوليسية، الأمريكيين والبريطانيين في زمن الحرب الباردة، من أمثال جون لوكاري، وإيان فليمنغ (صاحب شخصية جيمس بوند) وكلاهما كان ضابط استخبارات سابق، بنوا كل إنجازهم في هذا المجال على فكرة الصراع بين "خير" العالم الحر، في أميركا وأوروبا الغربية، "وشر" الستارة الحديدية، في الاتحاد السوفياتي، ودول الكتلة الاشتراكية.

وقد نجم فراغ هائل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبلدان الكتلة الاشتراكية، حين فقد "الشر" أبرز ممثليه، ولم يعد "الخير" قادراً على إنشاء حبكات ومغامرات جديدة تشبع حاجة السوق لهذا النوع من الروايات.

وبهذا المعنى، كان الحادي عشر من سبتمبر لحظة فارقة، لا في تاريخ الشرق الأوسط، والعالم عموماً، بل في تاريخ الرواية البوليسية، وروايات الإثارة، أيضاً، حين عثر الكتاب الأمريكيون، والغربيون، أخيراً، على المكافئ الموضوعي الجديد "للشر" القديم.

لذا، يندر أن تجد هذه الأيام رواية تنتمي إلى جنس الرواية البوليسية، وروايات الإثارة، لا تقوم حبكتها الرئيسة على موضوع الإرهاب، ولا تشكو قائمة الأشرار فيها من وجود "مسلمين"، ومن مفردات من نوع "الجهاد"، ولا يندر أن يدور جانب من أحداثها في بلدان عربية مختلفة، ولا أن يُعيدنا السرد إلى هذا البلد أو ذاك في معرض تفسير السيرة الشخصية للفاعلين الروائيين.

والمفارقة، في هذا الشأن، أن رواية "الرئيس مفقود"، تجمع "المجد من طرفيه"، فإضافة إلى "أبناء الجهاد" ثمة، أيضاً، أصابع عربية وروسية خفيّة ينجح الرئيس دونكان في إماطة اللثام عنها، وفي التدليل على مشاركة الروس في الهجوم الإرهابي، الذي تمكّن من إحباطه.

أخيراً، تُعامل الرواية البوليسية، وروايات الإثارة، بوصفها جنساً أقل أهمية من الروايات الأدبية الخالصة. وهذا صحيح جزئياً. ولكن سوق هذا النوع من الروايات أوسع بكثير من الروايات الأدبية، وبالتالي تأثيرها أكبر على جمهور القرّاء، وفي تشكيل وعيهم. والبارزون من كتّابها من أمثال دانيال سيلفا، وجيمس باترسون (شريك كلينتون في الرواية) يبيعون ملايين النسخ، وتترجم أعمالهم إلى لغات كثيرة. ولا مجازفة في القول إن مكانتهم المتدنية في سلّم الأدب الرفيع لا تحجب حقيقة أنهم أوسع انتشاراً، وأكثر نفوذاً وتأثيراً، من أصحاب المكانة الأعلى، والقيمة الأفضل.