الأربعاء 12 سبتمبر 2018 / 10:29

احتجاجات البصرة.. فاسدون وأعجميون

في الثالث من سبتمبر الجاري، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في مدينة" البصرة" العراقية على إثر تسمم آلاف الأشخاص ــ قَدَّرتهم بعض المصادر بثلاثين ألف حالة ـ من جراء تلوث مياه الشرب، وأتبعت بمطالبات تحسين واقع الخدمات العامة وخصوصاً الماء والكهرباء، وبداية تلك الاحتجاجات كانت اجتماعية محلية ضمن موقف صارخ من الفساد، لكن مع استمراريتها وزيادة وتيرتها بسقوط عدد من القتلى والجرحى مع مرور الأيام، غدت موقفاً تحررياً، من أجل انهاء الاحتلال الإيراني، المدعوم من بعض السياسيين العراقيين.

والواقع أن البصرة بما تمثله من ثقل بشري(مليون ونصف المليون نسمة حسب تقديرات عام 2014) وسياسي(ثالث أكبر مدن جمهورية العراق)، واقتصادي(العاصمة الاقتصادية للعراق)، وجغرافي (كونها تقع أقصى جنوب العراق على الضفة الغربية لشط العرب)، فإنها مؤهلة لإحداث تغيير أصبح وشيكاً، رغم تراجع المظاهرات في الأيام الأخيرة، ذلك لأن أسباب الثورة متوفرة، وأهمها: تفّشي ظاهرتين مرضيتين ومؤلمتين هما: جماعات الفساد السياسي والمالي، والتدخل الإيراني، الذي يرقى إلى مستوى الاستعمار.

وبعيداً عن تطور الأوضاع في البصرة خلال الأيام أو الشهورالمُقْبِلة، فإنها تتحرك اليوم في ثورتها على المفسدين والدخلاء مُسْتندة على حاضرها المتمرد، والمصحح لحركة التاريخ، وعلى ماضيها المجيد، منذ أن شيَّدها "عتبة بن غزوان" في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (يختلف المؤرخون في زمن بنائها)، بين سنة 14هـ/635م، أو 15هـ، أو 16هـ، أو 17هـ، ومراد ذلك اختلافهم هل كان بناؤها قبل فتح المدائن 16هـ أو بعدها)، وأيضاً منذ أن سمَّاها العرب "أرض الهند" و"قد كانت في الجاهلية من ثغور العراق، فيها خليط من أمم شتى، فرس ويونان أحلهم فيها الإسكندر، وهنود انتشروا في بطائحها، وقد نزلها العرب منذ القديم، كما فيها أنباط غير قليلين.. وكان يرتادها تجار العرب، وتردد عليها أبوبكر الصديق في الجاهلية مرات".

من ناحية أخرى، تشكّل البصرة ذاكرتنا العربية الجماعية، ليس فقط لأنها أول مدينة أنشأها العرب في العصر الإسلامي ـ أي أنها لم تكن موجودة أيام الفرس ـ وإنما لأنها تملك خبرة متوارثة لجهة تصحيح مسار اللغة العربية كونها أسبق مدن العراق والعرب انشغالاً بالنحو، فقد شيدت صرحه ورفعت أركانه، عندما حلَّ العجم في بلادنا، وانزلق اللسان العربي ـ من الحكام والمحكومين إلى اللّحن ـ في القول، وفي الكتابة أيضاً.

الحديث عن ذاكرة البصرة لجهة تكوين وإعادة إحياء واستنهاض الجوانب اللغوية ـ النحوية بوجه خاص ـ يهدف إل تبيان أمرين: الأول: رقي العقل العربي ونمو طاقته الذهنية نمواً أعده للنهوض برصد الظواهر اللغوية وتسجيل الرسوم النحوية، والأمر الثاني: تلبية حاجة الشعوب المستعربة إلى التكيف مع أوضاع العربية في إعرابها وتصريفها حتى تمثلها تمثلاً مستقيماً، وهذا يعني أنه رغم الهجمة الشعوبية، والانفتاح الحضاري للعرب ظلوا مدافعين عن لغتهم، وهو ما نفتقده اليوم، وذلك النوع من الدفاع هو الذي ظهر جلياًّ في احتجاجات البصرة الأيام الماضية حيث الرفض الشعبي لسيطرة إيران عن العراق، بل محاربتها، مع أن الدافع الأساسي كان الحاجات الحياتية اليومية لسكان البصرة، نتيجة الفساد السياسي والمالي المستشري، والرسالة كانت في منتهي الوضوح، وهي: أن التوظيف الطائفي والمذهبي مرفوض من مدينة تاريخية صنع سكانها على طول تاريخهم عزة العرب في أوقات السلم والحرب.

يبقى، أن البصرة ـ في كلام العرب هي الأرض الغليظة التي فيها حجارة صلبة بيضاء ـ تمثل اليوم عودة واعية وواعدة من عراق الغد المنتظر، وهي ثورة مقبلة سيكون وقودها فاسدين وأعجميين دخلاء، وهي بلا شك رفض مطلق لأوضاعه الراهنة، ومنها استغلال قوى الشر لنعمة التعدد المذهبي والطائفي والديني والثقافي، الذي صاحبه قبل الفتح الإسلامي وبعده لما امتاز به من أسباب الحياة الناعمة ورغد العيش، التي هي اليوم وَبَال عليه من أهله وجيرانه، ومن قوى عظمى تتحكَّم في مصير الدول الضعيفة.