الكاتب خيري منصور.(أرشيف)
الكاتب خيري منصور.(أرشيف)
الإثنين 1 أكتوبر 2018 / 20:28

لا حبر في قلم خيري

غادرنا المقهى إلى متجر قرطاسية اشترى منه خيري حبراً لقلمه. ربما كانت علبة الحبر تكفي فقط لبداية هذا الخريف

كان مبهراً في مظهره وفي كلامه وفي رؤيته للعالم كقطعة من اليابسة يراها المثقف من غيمة في السماء. أحكي عن الكاتب العربي المبدع خيري منصور الذي غيبه الموت قبل أيام ليرحل تاركاً إرثاً معرفياً يؤرخ سيرة مبدع نَفَخ الروح في النص المكتوب طيلة نصف قرن من الزمن العربي الصعب.

التقيته للمرة الأولى في عمان التي جاءها من بغداد المحروقة بالقصف الأمريكي في بداية التسعينات. وكنت قد قرأت بعضاً من شعره ومن نصوصه النثرية في سنوات ما قبل الحريق، وعرفت أن من يقرأ لهذا الكاتب يغامر بفقدان هويته الخاصة ويستسلم لإغواء التقليد. وقد اعترفت له ذات سهرة في منزل الصديق الفنان جميل عواد بأنني حين أقرأ له أتحول تلقائياً من كاتب إلى مجرد قارئ، ولعل ذلك ما جعل خيري مستهدفاً من جيش من الكتاب الحُساد الذين لم يجدوا ما يقولون عنه غير أنه كاتب نخبوي لا يجيد مخاطبة البسطاء!!

في اللقاء الأول بهرتني شخصية خيري مثلما أدهشتني نصوصه. كان الكبير الذي صار صديقي فلاحاً بسيطاً من دير الغصون يرتدي ثياباً أوروبية أنيقة ويحمل رؤية فلسفية متفردة للحياة وحصيلة معرفية موسوعية يندر أن تجدها لدى كاتب، واعتداداً بالنفس لا يشبه الغرور ولا يقبل التواضع في غير محله.
وكان صاحبي "حكاء" بارعاً، وهي الصفة التي أطلقها عليه صديقنا الشاعر قليل الكلام مريد البرغوثي، وأكدها أمامي صديقنا الكاتب كثير التهذيب محمد كعوش.

مثل كل المبدعين كان خيري يحب المقهى، وقد درجنا على اللقاء في مقهى الفينيق في عمان، وهو ملتقى ثقافي كان يديره الصديق المثقف محمد مشارقة، وكانت تجمعنا طاولة واحدة يشاركنا فيها الشاعر العراقي الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي الذي كان يقيم في عمان في ذلك الوقت، والإذاعي الفلسطيني الراحل يوسف القزاز، والفنان الأردني جميل عواد، وآخرون كانوا يجالسوننا، ويشاركوننا الاستماع إلى خيري. وأذكر أننا كنا نلخص حصيلة سهراتنا في الفينيق في مقالات صحفية منشورة في الصحف الأردنية والعربية.

لمن لا يعرفه عن قرب، كان خيري يبدو مقبلاً على الحياة ونهماً في العيش، فقد استطاع، بعد وقت قصير من وجوده في عمان أن يكتشف أسرار المدينة، وأن يصيغ روتيناً يومياً يقوده ظهرا من البيت إلى مطعم القدس في وسط البلد، ومن هناك إلى مقهى كوكب الشرق القريب، ثم إلى مكتبه في جريدة الدستور حيث يراجع مقالته المكتوبة ليلاً، ويشرب القهوة، ويستقبل الأصدقاء قبل أن ينطلق إلى ليل عمان الذي يطول كثيراً في حوارات المقاهي ومنازل أصحاب المال والطموح المعرفي.

لكن أبا أشرف لم يكن متفائلاً، بل إنه كان يعترف بضعفه ويأسه وخوفه من النهايات، وكأن الحياة كانت صغيرة وضيقة على روحه.
ذات جولة في وسط البلد بين محلات المقتنيات القديمة التي كان يحبها كثيراً، لحظت أن صديقي كان يعرج ونحن نمشي، فسألته إن كان يشعر بألم في ساقه أو قدمه، واقترحت أن ندلف إلى أقرب مقهى ونستريح قليلاً.

في المقهى خلع خيري حذاءه، وأبلغني بأن الحذاء الجلدي الفاخر ضيق أكثر مما ينبغي، لكنه يحب الجلد.
وعندما سألته: ولم ترتديه وهو ضيق ويؤلم قدمك؟ قال: يا صديقي الحياة ضيقة ومؤلمة أيضاً لكننا نعيش ونريد أن نعيش. يا صديقي الحياة أضيق كثيراً وأشد وجعاً من هذا الحذاء.

غادرنا المقهى إلى متجر قرطاسية اشترى منه خيري حبراً لقلمه. ربما كانت علبة الحبر تكفي فقط لبداية هذا الخريف.