الأديب المصري الراحل طه حسين (أرشيف)
الأديب المصري الراحل طه حسين (أرشيف)
الثلاثاء 6 نوفمبر 2018 / 20:11

طه حسين… قطعة من الجمال البشري

أسألُه مُطرقةً: "وما الحبُّ؟" فيشخُصُ إلى أعلى قائلاً: "الحبُّ لا يسأم ولا يملُّ ولا يعرف الفتور، عليك أن تُلحَّ في حبك حتى تظفرَ بمن تحبُّ أو تفنى دونه".

مات بالأمس الرجل الجميل وتركنا نتخبط في ظلام أبصارنا. في 28 أكتوبر (تشرين الأول)، مات الذي علمنا كيف نبصر دون عينين. حين التقيه المرةَ القادمة، سأطلب إليه أن أرافقَه مشوارَ حياته، لا أتركه لحظةً. سوف أقرأ له، أرتب مكتبَه وكتبَه ومكتبتَه. أجلو الغبار عن المقعد الفوتيي الوثير الذي يجلس عليه. برُقعةٍ من جلد غزال، أصقل نظارته السوداء التي تُخبئ وراءهما عينين نجلاوين، أبصرتا أكثرَ مما أبصرت عيون البشر مجتمعين، وأعمق.
  
سوف أطرح عليه كل ما يدور برأسي من أسئلة لا إجابات لها. وأُنصِت إن هَمّ بالإجابة. سوف أطرح كل يومٍ سؤالاً واحداً فقط، لكيلا تنفدَ أسئلتي قبلما أشبعُ من حضوره. لكن، هل تنفد الأسئلة في حضورٍ غَني؟! كلا! سوف تطرح الإجابات أسئلةً جديدةً، وتتوالد الأسئلة وتتكاثر حتى ينفد عمري قبل أن تنفد ألغاز تسكنني، ولا أشبع من حضور يحتاج ألف عين لتحيطَ به.

حين يطرِق برأسه ليغرقَ في تأملاته، أصمتُ. فالصمتُ في حرم الجمال جمال. وهذا الرجل الوسيم ليس إلا قطعةً بشرية من الجمال خلقه الله ليكون قبس نور وإلهاما للشعراء والأدباء والحائرين. أتأمل الجلال المهيب. أتلصص على لحظة هاربة من الزمن، وأخترق هذا الرأس عساي أعرف كيف تعتمل الفكرة في المخ الاستثنائي.

وحين يشخص ببصره لأعلى وينظر نحو لا شيء، أعرفُ أن الفكرةَ اكتملت، وأن دُرة جديدة من اللؤلؤ تتكون في محارة، سوف ترى النور قريباً. وأن القراء الجوعى على موعد مع رؤية جديدة، لم تدونها ذاكرة الإنسانية، سوف تفتح دروباً تُفضي إلى عالمٍ لم يروه من قبل.

يحكي لي السيد الكريمُ عن "الكروان" الذي حوم حول قبر "هنادي"، الصبية التعسة التي غدرها الأهل والجهل. يصدح بصوت حزين: "المُلكُ لك لك لك، يا صاحب المُلك"، ليُنبئ الدنيا كيف تُعذب البناتِ قساوة الرجل. الرجل العاشق، والخال العائل".

ثم يخبرني عن "نفيسة". وكيف تُطيح صورتنا بجوهرنا، ينظر الناس إلى وجوهنا، فإن كانت مليحةً أحبونا وطرحوا الفردوس تحت أقدامنا، وإن كانت دميمةً لقبونا بـ "شجرة البؤس". وينسون في غمرة هذا أن يتأملوا قلوبنا التي تحمل الجنةَ، بقدر ما تحمل من جحيم.
  
أسأله: "ما العبادة؟" فيقول: "كل عملٍ صالح عبادة". "وما العلم؟" "العلمُ يكلف طُلابه أهوالاً ثقالاً." "وما الإيمان؟" فيقول: "محبة المعرفة لا تفترق عن الايمان". "وما السعادة؟" فيقول الأستاذ: "السعادة هي ذلك الإحساس الذي يراودنا حين تشغلنا ظروف الحياة عن أن نكون أشقياء".

أسأله مطرقةً: "وما الحب؟" فيشخص إلى أعلى قائلاً: "الحب لا يسأم ولا يمل ولا يعرف الفتور، عليك أن تُلح في حبك حتى تظفرَ بمن تحب أو تفنى دونه". "ومتى يحين الرحيل يا أستاذي؟" فيقول: "تتنازل عن متعك الواحدة تلو الأخرى حتى لا يبقى منها شيء. عندئذ تعلم أن وقت الرحيل قد حان".

"وهل ترحل وأنت راضٍ عن نفسك يا حبيبي؟" فيهمس: "إياكَ والرضى عن نفسك، فإنه يدفعك إلى الخمول، وإياك والعجب، فإنه يورطك في الحمق، وإياك والغرور فإنه يظهر للناس نقائصك ولا يخفيها إلا عليك".

أُحب هذا الرجل الذي منحته فرنسا وساماً رفيعاً. وحين وقع العدوانُ الثلاثي على مصر، رد الوسامَ بكبرياء رافضاً تكريمَ دولة تعتدي على وطنه.

سيرحلُ هذا العظيم في أكتوبر(تشرين الأول) 1973، وهو لا يعلم أن طفلةً صغيرة أحبته، وتركت الحقل الهندسي بعدما درسته، لتدخل حقل الأدب، حتى تقترب من مقامه الرفيع. هذه الطفلة كبرت وصارت: أنا! فيا "طه حسين"، سلام عليك.