عالم النفس الثقافيّ ريتشارد نيسبت (أرشيف)
عالم النفس الثقافيّ ريتشارد نيسبت (أرشيف)
الخميس 8 نوفمبر 2018 / 21:03

كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولماذا؟

من الأخطاء القاتلة التي ارتكبها التنوير الأوروبي النظر إلى أنّ أنماط الفكر البشري واحدة لا تختلف، وهذا ما قاده إلى كونية العقل الإنساني في التفكير والاستدلال العقلاني والاستقراء المنطقي والرؤية الكلية ضمن قوالب ذهنية واحدة، وربما يعود هذا التعميم إلى مرجعية الفكر الإغريقي ذي الطبيعة الكونية الفلسفية.

لماذا تميّز الصينيون القدماء في علم الجبر والحساب دون الهندسة التي كانت قلعة الإغريق؟ لماذا يتميز الآسيويون المحدثون في الرياضيات والعلوم بينما كان حصادهم في العلم الثوري أقل من الصينيين؟

إن هذه الكونية تقود إلى سوء تفاهمات كبرى حتى في مجال السياسات الدولية، وذلك عندما ننظر إلى كل موحد ويفوتنا النظر إلى الأجزاء المتباينة.

اشتغل عالم النفس الثقافي ريتشارد نيسبت، على "جغرافية الفكر"، وهو مصطلح جديد اجترحه للحديث عن التباينات المختلفة بين مختلف الشعوب الشرقية والغربية.

إنّ العنوان الفرعي لهذا الكتاب هو "كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف..ولماذا؟" ويثير مؤلف الكتاب بعض الأسئلة المهمة ومنها: "لماذا تميز الصينيون القدامى في علم الجبر، والحساب دون الهندسة، التي كانت قلعة الإغريق؟ لماذا يتميز الآسيويون المحدثون في الرياضيات والعلوم، بينما كان حصادهم في العلم الثوري أقل من الصينيين؟ لماذا أبناء شرق آسيا أقدر من الغربيين على رؤية العلاقات بين الأحداث والوقائع؟ ولماذا يجد أبناء شرق آسيا أن من الصعب عليهم نسبياً عزل موضوع عن محيطه؟ ولماذا الغربيون أميل إلى تجاوز أثر السياق في سلوك الأشياء بل الناس؟ ولماذا الشرقيون أميل إلى الانحياز للنظر إلى الحادث بعد وقوعه"، ما يسمح لهم بالاعتقاد أنّهم يعرفونه دائماً؟.

لماذا أطفال الغرب يتعلمون الأسماء بدرجة أسرع كثيراً من الأفعال، بينما أطفال الشرق يتعلمون الأفعال بدرجة أسرع كثيراً من الأسماء؟ ولماذا الغربيون أميل إلى استخدام المنطق الشكلي عند التفكير عقلانياً في الأحداث اليومية، ولماذا إصرارهم على المنطق حتى وإن أدى أحياناً إلى وقوعهم في أخطاء؟ ولماذا يميل الشرقيون ميلاً كبيراً إلى التفكير في ضوء القضايا واضحة التناقض، وكيف يساعدهم هذا أحيانًا على الوصول إلى الحقيقة؟

 تصدر أهمية هذا الكتاب في تأسيس الفهم المتبادل للعلاقات بين شعوب العالم اعتماداً على جغرافية الفكر لتقليص الفوارق الذهنية بينهم، وهذا يؤدي إلى تقليل الصدامات والحروب والقضاء على الكراهيات الثقافية.

يذكر نيسبت الحادثة الآتية في كتابه إذ يقول: "منذ بضع سنوات بدأ طالب صيني نابه يعمل معي في بحث قضايا عن علم النفس الاجتماعي والاستدلال العقلي، وذات يوم، ونحن لانزال في بداية تعارفنا، قال لي: هل تعرف أن الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرةً وأنت تراه خطاً مستقيماً".

وأردف الطالب الصيني موضحاً فكرته: "يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبداً، لكن مع إيمان بأن الأشياء دائماً وأبداً تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت في البدء. إنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أن لاسبيل أمامهم إلى فهم الجزء دون فهم الكل. هذا بينما يعيش الغربيون في عالم أبسط حالاً وأقل خضوعًاً للحتمية، إنهم يركزون انتباههم على مواضيع أو أناس لهم وجودهم الفردي البارز دون الصورة الأكبر، ويظنون أن في وسعهم التحكم في الأحداث لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء".

من الأمور الأساسية في هذا الكتاب أنّ مصطلح "الشرقيين" يعني به الكاتب"الشرق الآسيوي" أو جنوب شرق آسيا، وكان عليه ألا يقتصر فقط في هذه المقارنة على هذا الشرق فقط، وإنما يشير إلى التنوعات العدة للشرقيين.

والأمر الآخر أنّ هذا الكتاب مقاربة تحليلية عميقة جدًا للصور الذهنية وقوالب التفكير بين شعوب متباينة في أصولها الإثنية والحضارية. ومن الأمور الطريفة التي بينها الكاتب أن الأنماط الفكرية لأمريكيين آسيويين ستشبه مدركات فكر غيرهم من الغربيين بدرجة كبيرة، وأنّ العالم يمكن أن يكون على طريق التلاقي وليس اطراد التباعد بتلك الصور والقوالب الذهنية التي تنتج توليفة مدهشة معرفية من الامتزاج والتعايش بين ثقافات متباينة، فبينما يشرب العالم الكوكاكولا ويرتدي الجينز، نجد الغربيين يضيفون إلى أطعمتهم أطعمة شرقية، ونرى الآن كثيراً من الأطباء الغربيين الذين يقبلون بعض الأفكار العامة عن الطب الكلي، وهو الطب الذي يعتمد على النظرة الكلية للإنسان والبيئة.

وختاماً أقول هذا الكتاب يعد جديداً في مجاله وهو "جغرافيىة الفكر" التي تندرج في سياق الدراسات الثقافية، والكتاب في ترجمته العربية صادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية وبترجمة شوقي جلال.