امرأة فلسطينية تعد مالاً في جنوب غزة.(أف ب)
امرأة فلسطينية تعد مالاً في جنوب غزة.(أف ب)
الأحد 11 نوفمبر 2018 / 19:28

عن مائة دولار وعيش كريم

هل في المائة دولار ما يبرر لأحد الكلام عن "العيش الكريم"؟ وهل "صمد" الشعب و"ضحى" "لينتزع" في نهاية المطاف قرابة مليون من أفراده مائة دولار على مدار ستة أشهر؟

نقل مندوب قطر في غزة، يوم الخميس الماضي، عن طريق معبر بيت حانون، إيريز، بالتنسيق مع الإسرائيليين، ثلاث حقائب تحتوي على 15 مليون دولار. وقد حرص الإسرائيليون على نشر الخبر، وصور الحقائب، كما حرصوا على تأكيد حقيقة أنهم وافقوا، مسبقاً، على كشوف تضم أسماء المستفيدين من "المنحة" القطرية، وجانب من هؤلاء من الموظفين المدنيين الذين عيّنتهم حماس لإدارة شؤون القطاع بعد انقلابها المُسلّح في العام 2007.

وعلى الرغم من حقيقة أن أحداً من مراقبي المشهد الفلسطيني، سواء من الفلسطينيين أو الإسرائيليين، لم يتردد في الكلام عن صفقة ثلاثية مريبة تضم حماس وقطر وإسرائيل، إلا أن ناطقاً رسمياً باسم حماس وصل إلى خلاصة يصعب أن تخطر على بال أحد ما لم يكن في حالة فصام وقطيعة مع الواقع. فما تحقق "إنجاز" وبه "يكون شعبنا قد فرض معادلة جديدة في مسار النضال الفلسطيني لاسترداد حقوقه"، كما يقول.

وأهم من هذا كله، وما زلنا في معرض الاستشهاد بكلام ناطق حماس الرسمي، فإن: "الشعب الفلسطيني ما كان ليحصل على حقوقه في العيش الكريم لولا صبره وصموده وثباته وتضحيات الشهداء والجرحى وإبداعات الشباب الثائر، والحالة الوطنية التي تجسدت في الوحدة والنضال والانخراط بقوة في كافة هذه الفعاليات".

وينبغي التشديد، هنا، على حقيقة أن كلام الناطق الرسمي جاء في سياق خبر عن توزيع ما في الحقائب القطرية من دولارات، وفي التفاصيل أن موظفاً في مالية حماس في غزة أعلن عن صرف مساعدة بقيمة مائة دولار لخمسين ألف عائلة فقيرة، وكذلك مساعدة بسبعمائة شاقل، أي أقل من مائتي دولار، لخمسة آلاف عائلة من ذوي الشهداء والجرحى "بإصابات بالغة ومن بترت أطرافهم"، إضافة إلى تشغيل مؤقت لعشرة آلاف عامل.

ثمة مفارقات كثيرة ومؤلمة في كل ما تقدّم. فمبلغ المائة دولار لا يكفي أكثر من أسبوع للإنفاق على عائلة متوسّطة الحجم، وفي ظروف العيش بالحد الأدنى. وحتى إذا غضننا الطرف عن أمر كهذا، فإن عدد أفراد العائلات المذكورة في قائمة المساعدات يتجاوز 325 ألف نسمة، إذا افترضنا أنها تضم خمسة أفراد، في المتوسط، وهذا تقدير متواضع جداً.

وإذا دققنا في صياغة الخبر، فإن تخصص المساعدات لذوي الشهداء والجرحى "بإصابات بالغة ومن بترت أطرافهم" يعني إسقاط آلاف غيرهم من القائمة، فعدد الجرحى منذ مارس )آذار( الماضي، يزيد عن اثنين وعشرين ألفاً من المواطنين، إضافة إلى شهداء زادوا عن المائتين. وهذه بيانات وزارة الصحة في غزة. ومن الواضح، أيضاً، أن شهداء وجرحى الحروب السابقة، وهم يعدون بالآلاف، ليسوا ضمن القائمة.

بمعنى أكثر مباشرة، يبلغ عدد سكان قطاع غزة قرابة مليوني نسمة، ومن الواضح أن نصف هؤلاء يحتاجون، فعلاً، إلى مساعدات عاجلة، حتى وإن كانت في صورة مائة دولار، لا تسمن وتُغني عن جوع. فهل في هذا ما يدخل في، ويبرر، الكلام عن إنجاز؟

وهل في بؤس وشقاء قرابة مليون من البشر، وجعل حتى المائة دولار مساعدة عاجلة، وعامل إنقاذ، ما يبرر الكلام عن "معادلة جديدة" وأين؟ "في مسار النضال الفلسطيني"، الذي بدأ منذ مائة عام؟

وهل في المائة دولار ما يبرر لأحد الكلام عن "العيش الكريم"؟ وهل "صمد" الشعب و"ضحى" "لينتزع" في نهاية المطاف قرابة مليون من أفراده مائة دولار على مدار ستة أشهر؟ ومع هذا كله، وفوقه، وقبله، وبعده، هل يحق لأحد الكلام عن مساعدات إنسانية بوصفها إنجازات؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمكن تسميته بالإنجاز السياسي؟ وأين السياسة من هذا كله؟

يُقال إن اللغة كالسمكة تفسد من رأسها. ورأس اللغة خطاب السياسة، فإذا تدهور، واختلطت فيه الدلالات، واغترب عن الواقع، وانفصم عنه، يجد الناس أنفسهم في حالة لا يُحسدون عليها. وهذا، على الأرجح، ما يشعر به ما لا يحصى من الفلسطينيين هذه الأيام في غزة، بالتأكيد، وفي كل مكان آخر.