من تظاهرات "السترات الصفراء" في جادة الشانزليزيه.(أرشيف)
من تظاهرات "السترات الصفراء" في جادة الشانزليزيه.(أرشيف)
الأربعاء 28 نوفمبر 2018 / 20:09

يوم الشانزليزيه

التوقعات أن ماكرون سيعطي شيئاً للمحتجين، ليحافظ على تنفيذ خططه النيوليبرالية. الحديث أيضاً سيكون عن إعلان مجلس أعلى للمناخ

بدأتْ موجة الاحتجاجات الفرنسية تحت اسم "السترات الصفراء" 17 نوفمبر (تشرين الثاني)، وأغلقتْ بعض الطرق السريعة، ومات شخصان، وقُبض على المئات، وسط صمت ماكرون، وتجاهله للأحداث. كان الغضب من رفع أسعار الوقود، هو الذي أشعل فتيل الاحتجاجات. أسوأ شيء فعله ماكرون، هو تجاهل "السترات الصفراء" التي صعَّدتْ من احتجاجها بإعلان تنظيم تجمعها يوم 24 نوفمبر، في الشانزليزيه، وعلى مقربة من قصر الإليزيه، المقر الرسمي لرئاسة جمهورية فرنسا. رفض وزير الداخلية الفرنسي مكان التظاهر، وحدد مكاناً آخر.

قبل التظاهر بيوم واحد، أبدتْ وسائل الإعلام الفرنسية، خوفاً واضحاً من اندساس جماعات اليمين المتطرف، واليسار المتطرف، بين "السترات الصفراء". صمت ماكرون طوال ثمانية أيام، استفز "السترات الصفراء"، التي تحدثتْ عن ضعف القوة الشرائية عند شريحة عريضة من الفرنسيين. ظل ماكرون صامتاً إلى أن حانتْ ساعة الشانزليزيه، واصطدمتْ "السترات الصفراء" بالشرطة، فأُطلقتْ الشرطة الغاز المسيل للدموع، ومدافع المياه، فاقتلع المتظاهرون حجارة الأرصفة البازلتية، وأحرقوا كراسي المقاهي الأنيقة، ونهبوا محل "كريستيان ديور" الفاخر.

سرعان ما تحول المشهد الفوضوي، الهمجي، إلى مشاهد شاهدناها كثيراً في الربيع العربي الكئيب، المدمر، طوال السنوات الماضية، وكان الغرب للمفارقة لا يرى سوى حقوق المتظاهرين السلمية، وحريات المتظاهرين، لكن في يوم الشانزليزيه، لم ير الغرب وإعلامه سوى البلطجية، والمتطرفين اليساريين، والشعبويين اليمينيين، والمخربين الأناركيين، واللصوص.

بينما كانت الشانزليزيه تضج بالحرائق والدماء وضربات الهراوات، وسحل الأجساد، كانت وسائل الإعلامة الرسمية الفرنسية مثل فرانس 24، وtv5، وفرانس 2، وفرانس 3، تبث برامج عن تقليم النباتات والورود، ورياضات الزوارق الشراعية، وفقرات عن الأماكن السياحية في تايلاند، ومسابقات المعلومات العامة. أين الموضوعية والأخلاق المهنية التي يتشدق بها الغرب؟

طالبتْ "السترات الصفراء" باستقالة ماكرون، ووصفوه براعي مصالح الأوليغاركية المتخمة برؤوس الأموال. ماكرون أخيراً رد بعجرفة، وبتعال، وبشكل غير مباشر، على مطالب "السترات الصفراء"، في قمة بريكسيت المأزومة. قال: أعتقد أنه لن يكون هناك مشروع اجتماعي، أو سياسي على المستوى الوطني والأوروبي، إن لم يقدم إجابة واضحة للطبقة الوسطى والعاملة، أي إجابة اقتصادية اجتماعية، وثقافية.

"السترات الصفراء" اعتبرت كلمات ماكرون الباهتة لا تسمن ولا تغني من جوع. استغل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاحتجاجات الفرنسية، ليغمز ويلمز، فقال في تغريدة: على دول الاتحاد الأوروبي أن تدفع حصة عادلة من أجل حمايتها العسكرية. أعرب ماكرون في لقائه السابق مع ترامب، عن نيته في بناء جيش كبير موحد، لحماية أوروبا، وكأنه ينفي وجود الناتو. تعرَّض ماكرون لسلسلة تغريدات ساخرة من دونالد ترامب، أكثرها حدة، الإشارة إلى أن أمريكا أنقذتْ الفرنسيين قبل تعلم اللغة الألمانية أثناء احتلال النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية.

أعلنتْ "السترات الصفراء" الحشد ليوم السبت المقبل الأول من ديسمبر (كانون الأول) في الشانزليزيه أيضاً، بينما أُعْلِن عن خطاب لماكرون يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي قبل يوم السبت. التوقعات إلى حين كتابة هذه السطور، أن ماكرون سيعطي شيئاً للمحتجين، ليحافظ على تنفيذ خططه النيوليبرالية. الحديث أيضاً سيكون عن إعلان مجلس أعلى للمناخ. قال ماكرون عن "السترات الصفراء" يوم الإثنين 26 تشرين الثاني (نوفمبر)، في مجلس الوزراء: علينا ألا نقلل من تأثير ذلك على أذهان الناس، سواء في فرنسا، أو خارجها، مشاهد المعركة التي نقلتها وسائل الإعلام.

كأنَّ ماكرون يعتذر عن عدم اهتمامه، وتعاليه على "السترات الصفراء"، طوال ثمانية أيام، إلا أن الاعتذار غير مباشر أكثر من اللازم، لدرجة تستدعي السخرية، وفي العامية يقول المرء رداً على كلمات ماكرون: ما تقول لنفسك. كلمات ماكرون تعني أنه كان مختبئاً يتابع بقلق مشاهد الحرب أو المعركة على وسائل إعلام غير رسمية، لأن القنوات الفرنسية الرسمية كما قلنا كانت مهتمة بتقليم النباتات، والزوارق الشراعية. الحقيقة أن صمت ماكرون كان زائفاً. كان يُمثِّل عدم اهتمامه، ليبدو قوياً ثابتاً.

السيناريو القائم الآن على قدم وساق، إلى يوم السبت، موعد الشانزليزيه الثاني، هو نعت "السترات الصفراء"، بأنها تفتقد للقيادة، وليس لديها مَنْ يتحدث باسمها، وأن هناك من داخل "السترات الصفراء"، مَنْ يرفض الحشد ليوم الشانزليزيه الثاني، وأن دعوات الحشد تفقد زخمها بسبب العنف، وهناك من داخل "السترات الصفراء" أيضاً، مَنْ يريد حواراً مع سلطات الدولة، للنقاش حول المطالب وإمكانية تحقيقها.

سيُقابَل هذا السيناريو بسيناريو مضاد، مفاده أن "السترات الصفراء"، لا يملك أحد الحديث باسمها، وأن الحوار مع السلطات مرفوض في الوقت الحالي، وأن الحشد ليوم الشانزليزيه الثاني، ما زال قوياً، وأن الدولة الفرنسية تُحدث الوقيعة في صفوف "السترات الصفراء"، على أمل صرف النظر عن الإصلاحات الجذرية.