السبت 1 ديسمبر 2018 / 21:48

التعليم الديني وضرورة إعلاء مكانة العقل

لا يمكن لمن يفكر في وضع منهج تعليمي، حتى لو كان دينياً بحتاً، أن يهمل العقل، فلا يحترم وجوده، ودوره الذي من أجله أوجده الله، ومنحه للإنسان، فصار "حيواناً عاقلاً"، كما يصفه البعض، ولا يلتفت إليه في احترام وصبر ليخاطبه، فيستميله ويقنعه ويحاججه، فهو إن أقدم على غير هذا يكون قد وقع في جفاء مع الإسلام دون أن يدري، لأن "الإسلام بايع العقل" حسبما يقول خالد محمد خالد، وهذه البيعة ملزمة لكل من يتحدث في الدين أو به أو من أجله.

ولم يأت القرآن الكريم على ذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، حيث "لا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضية في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه. ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون الجدد من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف خصائصها وأعمالها وتعتمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يفطن به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة"، حسبما يرى العقاد في كتابه المهم "التفكير فريضة إسلامية".

لهذا يقول الماوردي: "العقل هو أس الفضائل وينبوع الآداب. جعله الله للدين أصلاً، وللدنيا عماداً، فأوجب التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه، مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم".

ويجعل القرآن الكريم من العقل طريقاً وسيعاً للإيمان، حيث يقول الله تعالى: ﴿قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا﴾ [سبأ: 46]، ثم يجعل منه واسطة للتشريع. وحتى ما رتبه الفقهاء من وسائل للتفقه مثل الإجتهاد والقياس والإجماع والإستحسان والمصالح المرسلة وغيرها تتطلب في جوهرها إعمال الذهن، واستنهاض قدرته على الوعي والإدراك والتفكير والتذكير والتدبر.

ومن إعلاء الإسلام لمكانة العقل الفردي، إنه لا يعرف في حقيقته الرهبة والكهانة، التي تصنع واسطة بين العبد وربه، أي حاجز بين العقل البشري والله، وهو سد منيع يحول دون الفهم الحر للذات والمجتمع، ونبذ الاتكالية والتبعية الخاضعة، والتمسك بالحرية التامة في تدبر الكون والطبيعة، والقرآن نفسه، والسنن التاريخية، وما في الخلق والنفس، وكذلك ما في النص القرآني، لأن العقل هو الذي يستوعب النص، ويخرجه إلى حيز التداول والتنفيذ.

وحفظاً للعقل حرم الإسلام المسكرات بأنواعها لما فيها من ستر التعقل، وتعطيل الفكر، وإنهاك قواه، وحرم الكثير من المفاسد التي تؤثر على الربط والفهم والإدارك والتذكر، وتترك العقل ضعيفاً خاملاً، أو جعلها من المكروهات، ومنها كل ما يجعل الجسم معتلاً، لأن العقل السليم في الجسم السليم، وكذلك كل ما يجعل النفس معتلة مختلة، بما يؤثر في سلامة التفكير، مثل التعصب والغضب واستعار الاشتهاء والإكراه وقسر الإرادة، والإغراق في الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها، فلا يكون أمامه سوى الشطح أو التأله، وكلاهما يؤثران على "رشد التفكير" بوصفه أعلى خصائص العقل، لأن الرشد أعلى من الإدراك والوازعية والحكمة، فهو كل هذه الوظائف يضاف إليها مزيد من النضح والتمام.

أما الطبيعة والكون من سمائه وأرضه ومن جباله وبحاره، ومن كواكبه وأقماره وشموسه، والمادة والطاقة، وأعماق البحار وآفاق الفضاء.. كل ذلك متروك للإنسان ليدرسه في مصنعه ومعمله بآلاته وأدواته، ويدع عقله يتجول في ذلك ما استطاع إليه سبيلاً، حني يكتشف سنن الله الكونية ونواميسه الطبيعية، ويرى صنع الله الذي أقفن كل شئ خلق.

ومن إعلاء العقل في القرآن أنه يربطه بالعاطفة، فالعاطفة والعقل في الإسلام يتكاملان ولا يتناقضان، فالعقل يدرك الصواب والخطأ الذي تبنى عليه العلوم، والقلب يتجاوب مع منطق الخير والشر والجمال والقبح والرحمة والقسوة والعلاقة قائمة بين الاثنين، والإنسان أشبه بقارب قلبه هو شراع، يمتلئ بالهواء فيدفع القارب إلى الأمام، وعقله هو الدفة التي توجه القارب وتمنعه من الارتطام بالصخور.. وبذا لا غنى لأحد عن الآخر. وقد عبر القرآن عن هذا في آيات عديدة مثل: ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها﴾ [الأعراف:179] و ﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها﴾ [الحج: 46] و﴿أفلم يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ [محمد:24] و﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان﴾ [المجادلة: 22] و﴿إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا﴾ [الكهف: 57].