رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي (أرشيف)
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي (أرشيف)
الأربعاء 5 ديسمبر 2018 / 20:37

بريطانيا: معضلة تستدعي العلاج الأصعب

صوت مجلس العموم البريطاني ثلاث مرات متتالية ضدّ حكومة تيريزا ماي المحافظة. تقول هذه الواقعة إنّ الطريق التي تسلكها رئيسة الحكومة قد لا تفضي إلى مكان، بل قد تؤدي إلى سقوط الحكومة نفسها، وفي وقت قريب جداً.

السكاكين التي تُستلّ في مواجهة تيريزا ماي كثيرة وأنصالها قاطعة. وهي يمكن أن تستكمل هزائمها بهزيمة أكبر في مجلس العموم، هزيمةٍ تصرّ أطراف متناقضة كثيراً في ما بينها على إنزالها بها

النتيجة هذه لا تبدو موضع استغراب كبير، أو أن المستغربين قلة قليلة تتشكّل من ماي وبعض أقرب المحيطين بها.

ذاك أنه بعد مفاوضات صعبة ومعقدة مع الاتحاد الأوروبي حول شروط تطبيق بريكست، والعلاقة التي ستنشأ مستقبلاً بين لندن وبروكسل، جاء الاتفاق ليثير معارضة الجميع: البريكسيتيون، في حزب ماي المحافظ، كما في باقي الأحزاب، رأوا أن هذا الاتّفاق خيانة لنتائج الاستفتاء، وأنه بقاء "ناعم" و"غير معلن" في الرابطة الأوروبية التي أرادت غالبية البريطانيّين الخروج منها.

خصوم بريكست، في المقابل، كان من الطبيعي أن يخاصموا الاتفاق بوصفه النتيجة الخاطئة التي تترتب منطقياً على مقدمة خاطئة.

زاد في الطين بلةً ما أوحى به كلام متكرر صدر عن ماي والمقربين منها: "هذا الاتفاق سيسيء إلى الاقتصاد البريطاني، لكن مغادرة الاتّحاد الأوروبي، دونه ستكون كارثة كبرى على المستويات جميعاً".

المصرف المركزي أيد هذا التقدير وعززه بالمعطيات الأكثر تشاؤماً. في موازاة ذلك استقال عدد كبير نسبياً من الوزراء المحافظين فيما كان الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب، الكاره للاتحاد الأوروبي، يعلن أن ذاك الاتفاق سيجعل التبادل التجاري بين بلاده والمملكة المتحدة أمراً صعباً جداً.

إذاً السكاكين التي تُستل في مواجهة تيريزا ماي كثيرة وأنصالها قاطعة. وهي يمكن أن تستكمل هزائمها بهزيمة أكبر في مجلس العموم، هزيمةٍ تصر أطراف متناقضة كثيراً في ما بينها على إنزالها بها.

السؤال المطروح اليوم، مع شعور الجميع بالمأزق، هو: ما العمل؟ فالاستفتاء المشؤوم، الذي أجري قبل عامين، وضع البلد أمام طريق مسدود، "يعارض خط التاريخ وخط التقدم" كما يقول بعض الإيديولوجيين المناهضين لبريكست، علماً أن الإيديولوجيّين في المعسكر الآخر أكثر عدداً وأعلى صوتاً.

وهذا يعني إجراء استفتاء جديد ينقض نتائج الاستفتاء السابق، سيما وقد تزايد كثيراً في الآونة الأخيرة عدد النادمين على ما فعلوه في 2016، وعدد المدركين المتأخرين لمصاعب الانفصال.

والحال أن المطلب هذا بات يحظى بقاعدة عريضة في حزبي المحافظين والعمال سواء بسواء، وإن كان القادة الحزبيون، ولأسباب شتى، يعارضونه.

الاستفتاء البديل، إذا ما تسنى إجراؤه، سيشكل انكساراً باهراً للنزعة الشعبوية والقومية، لا في بريطانيا وحدها، بل في عموم أوروبا كذلك. في هذه الحال، سينتصر الواقع وإلحاحه العملي على التصورات الطوباوية التي لا تستند حماستها إلى أي مرتكز واقعي. كذلك سيتأكد أن الوجهة الأوروبية هي الوجهة الوحيدة الممكنة فيما التراجع عنها قفز في المجهول، أو بالأحرى في المعلوم البائس والرث.

وقبل أيام قليلة قدمت إيطاليا نموذجاً صغيراً عن هذه الحقيقة، إذ بعد الضجيج المناهض للاتحاد الأوروبي، اضطرت حكومتها الشعبوية للرضوخ إلى مطلبه بخفض إنفاقها العام. لقد كانت الحسابات العملية، لا الأماني الخطابية، وراء ذلك.

لكنْ، من الجهة الأخرى، هل يمكن التعويل على احتمال كهذا في ظل الانتصارات المتوالية والراهنة التي تحققها الحركات الشعبوية والقومية في القارة، وكان آخرها في إسبانيا؟ الأمر، بالتأكيد، صعب، لكنه ليس مستحيلاً. بريطانيا البراغماتية ذات سوابق كثيرة في التصدي للموجات الطاغية وفي التغلب عليها.