قوات أمريكية في سوريا.(أرشيف)
قوات أمريكية في سوريا.(أرشيف)
الأحد 23 ديسمبر 2018 / 19:40

أسئلة ما بعد الانسحاب

كيف سيرد بقية الفاعلين على عملية عسكرية تركية شرقي الفرات، ومَنْ سيهب لنجدة الأكراد وقوّات سوريا الديمقراطية، وإلى أي حد يمكن أن يتغاضى الروس والإيرانيون عن التوسّع التركي في سوريا، وإلى أي حد سيتغاضى الأتراك عن هجوم محتمل للنظام على إدلب، وإلى أي حد سيحترم الروس تفاهمات سابقة مع إسرائيل للحد من توسّع النفوذ الإيراني،

جاء قرار سحب القوّة العسكرية الأمريكية من سوريا مفاجئاً للكثيرين. ولم يتردد أحد من المُعقبين على الحدث في تقسيم قوى محلية، وإقليمية، ودولية، إلى رابحين وخاسرين. وعلى الرغم من حقيقة أن الوجود العسكري الأمريكي، الذي بدأ على الأرض منذ العام 2015، كان رمزياً إلى حد بعيد، ولا يتجاوز ألفين من العسكريين، إلا أن دلالته العسكرية والسياسية كانت كبيرة.

وفي هذا السياق، جاءت استقالة وزير الدفاع الأمريكي، الجنرال ماتيس، وهي وثيقة الصلة بالحدث، لتضفي مزيداً من الدرامية على مشهد ينفتح على احتمالات كثيرة، ويقبل التأويل على أكثر من صعيد، على خلفية التباين في الآراء بشأن الطريقة المُثلى، للحضور في، والتأثير على، المشهد السوري المُلتهب، وانعكاس هذا كله على موازين القوى في سوريا نفسها والإقليم والعالم.

فالقوّة الأمريكية الصغيرة نزلت على الأرض السورية كجزء من حرب برية وجوية، شنها تحالف دولي واسع على داعش، بعدما تمددت الأخيرة واستولت على مساحات واسعة في سوريا والعراق، وأعلنت دولتها الوهمية. وقد نجحت الحرب، إلى حد بعيد، في دحر الدواعش، وتحرير الأرض، وتقويض دولتهم المزعومة.

وفي سياق الحملة العسكرية تبلورت علاقة متينة بين الأمريكيين وقوّات سوريا الديمقراطية، التي تضم نسبة كبيرة من المسلحين الأكراد، وما تبقى من فصائل الجيش السوري الحر، والسكّان المحليين، وتنشط في شمالي وشرقي الفرات، المنطقة التي تُقدّر بربع مساحة سوريا، وما زالت خارج سيطرة النظام في دمشق. لا يشارك العسكريون الأمريكيون في المعارك البريّة، ولكنهم يقدّمون الاستشارة، والسلاح، والتدريب، والغطاء الجوي، والمعلومات الاستخبارية، والأهم أن وجودهم يضمن بقاء هؤلاء.

لذا، ليس من السابق لأوانه القول: إن قوّات سورية الديمقراطية تبدو، اليوم، في وضع لا تحسد عليه. وما يعزز من جدية هذا الاحتمال التهديد التركي بعملية عسكرية شرقي الفرات للقضاء على الميليشيات التركية المُسلّحة، التي ترى فيها تركيا عدواً لا يمكن التعايش معه.

ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد، فمن المنطقي التفكير في حقيقة أن أكثر من فاعل رئيس، على الأرض السورية، يرى في الخطوة الأمريكية الجديدة ما يُمكِّنه من إضافة المزيد من أوراق القوّة إلى رصيده العسكري والسياسي والرمزي. وفي طليعة هؤلاء الروس، الذين أنقذوا بتدخلهم العسكري، قبل ثلاث سنوات، النظام من خطر السقوط، وأصبحت لهم، الآن، اليد الطولى في سوريا.

وإلى جانب الروس، يمكن الكلام عن الإيرانيين، وهدفهم الاستراتيجي الرئيس المُتمثل في فتح وتأمين ممر بري وصولاً إلى الحدود اللبنانية عبر الأراضي العراقية، والسورية، ومدخل هذا كله السيطرة على جانبي الحدود العراقية السورية، وإنشاء قواعد ثابتة، وخطوط حماية وإمداد في سوريا والعراق.

وهناك، أيضاً، النظام في دمشق، الذي يعنيه إعادة بسط نفوذه على مناطق استعصت عليه حتى الآن، وربما يجد في التطوّرات الأخيرة ما يشجعه على مهاجمة إدلب. وإلى جانب كل هؤلاء لا يمكن تجاهل القوّة الإسرائيلية، التي ترى في وجود الروس والإيرانيين، في سوريا، مصدر تهديد يصعب التغاضي عنه، وقد حاولت الوصول إلى تفاهمات مع الروس، لكن علاقتها بهم تضررت بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وكان وجود القوّة العسكرية الأمريكية ورقة رابحة في نظر الإسرائيليين.

بمعنى آخر، تتجلى مسألة انسحاب الأمريكيين من سوريا بوصفها مدخلاً لإعادة التموضع، في مشهد بالع التعقيد، وفي ظل حساب ما أضافته أو سحبته من أوراق القوّة إلى، أو مِنْ، الرصيد، في نظر أطراف رئيسة فاعلة في سوريا تتبنى أجندات مختلفة، ويصعب التوفيق بين مصالحها المتضاربة في كل الأحوال. لذا، ثمة أسئلة من نوع:

كيف سيرد بقية الفاعلين على عملية عسكرية تركية شرقي الفرات، ومَنْ سيهب لنجدة الأكراد وقوّات سوريا الديمقراطية، وإلى أي حد يمكن أن يتغاضى الروس والإيرانيون عن التوسّع التركي في سوريا، وإلى أي حد سيتغاضى الأتراك عن هجوم محتمل للنظام على إدلب، وإلى أي حد سيحترم الروس تفاهمات سابقة مع إسرائيل للحد من توسّع النفوذ الإيراني، والتغاضي عن ضربات جوية ضد أهداف إيرانية، أو تخص نظام دمشق؟ كيف سيعيد كل هؤلاء حساباتهم، وكيف سيتجلى التناقض بين أهدافهم على الأرض، وهل التعايش بينهم ممكن؟
لا يملك أحد إجابة قاطعة، حتى الآن، كل ما في الأمر أن مصير سوريا، ومستقبلها، لم يعد في أيدي السوريين أنفسهم، بل بين أسنان الكثير من أسماك القرش.