سودانيون يتظاهرون احتجاجاً على الغلاء.(أرشيف)
سودانيون يتظاهرون احتجاجاً على الغلاء.(أرشيف)
الجمعة 28 ديسمبر 2018 / 20:46

السوداني ليس طيباً!

السوداني لا يتوسّل منك أن تزكّي أخلاقه، أو نمط حياته المحافظ، أو مدى تمسّكه وتطبيقه للدين الإسلامي. والسوداني لا يطلب منك أن تتدخّل في الصراعات والخلافات بينه وبين جيرانه

لم يكن قد مر وقت طويل منذ انتهاء الاحتجاجات في السودان -ربما كان ذلك في 2011 أو 2012- حينما كنت جالسة مع إحدى الصديقات السودانيات، فارتأى لي أن أمارس ربطاً كوميدياً سخيفاً بين إخماد بوادر الثورة في بلادها وبين الكسل المزعوم للشعب السوداني.

فابتسمت صديقتي بدماثة وأدب. وبطيبة السودانيين، تلك التي أُثبت صدقها مراراً وتكراراً.

لم تخبرني بأنه من المعيب –ولا سيما مع مرور وقت قصير على الأحداث- أن ألقي النكات عن الثورة، وأن أرمي أبطالها بالتقاعس والهوان. أو بأن خليجية مرفهة مثلي من الحري بها ألا ترمي بيوت الناس بالحجارة أصلاً.

ولكن لا تقلقوا، فمثل هذا المشهد لن يتكرر مجدداً، حتى مع اندلاع الثورة ثانية في السودان. وليس بالضرورة لأني طوّرت حساً فكاهياً "يمشي جنب الحيطة"، ويخشى التعرّض للمواضيع الحساسة لدى الآخرين. ولكن لأن السودانيين أنفسهم لم يعودوا طيبين.

وهذه ليست إساءة لهم –والعياذ بالله-، بل صفعة خفيفة على الخد المتصعّر على الواقع أحياناً، والغافل عنه أحياناً أخرى، والذي أراه عاكفاً على إهانة نفسه منذ اشتعال نار التظاهرات في المدن السودانية.

دعني أخبرك يا زول:

السوداني ليس "طيباً". ليس لطيفاً. ليس ساذجاً. ليس مطيعاً مطواعاً متساهلاً. لم يُخلق بقدرة فوق بشرية على تحمّل مزاحك الثقيل، وأنت الذي تصرّ على تصوّره كائناً خاملاً خلق معاناته بنفسه، أو على التعايش مع جهلك المخيف به، وببلده، وبحضارته. السوداني ليس ملزماً بأن يبادل كل حماقة تتفوه بها بالابتسامة والتغاضي.

والسوداني ليس تابعاً هامشياً ملهوفاً على اعترافك له بالعروبة، وإقرارك بأنه حفيد أولئك الصحابة المهاجرين إلى إفريقيا. إنه لم يعد ينظر لك بتلك الأفضلية التي تتخيلها في ذهنك لكونك ابناً لشبه الجزيرة، ولا يدين لك بالولاء اللامحدود الذي تنتظره. السوداني مثلك؛ فخور بعرقه، وسواده، ولهجاته، ولغاته، وتراثه، وباحث عن مصالحه وأولوياته.

والسوداني لا يتوسّل منك أن تزكّي أخلاقه، أو نمط حياته المحافظ، أو مدى تمسّكه وتطبيقه للدين الإسلامي. والسوداني لا يطلب منك أن تتدخّل في الصراعات والخلافات بينه وبين جيرانه، أو أن تشرع في مقارنته بالشعوب العربية الأخرى، كالأب الجائر الذي يعد بتحديد المفضّل من أبنائه في سبيل تعريضهم جميعاً لقواعده وقوانينه.

السوداني قد تغيّر. أو ربما هو لطالما كان هكذا، ولكننا لم نتمهّل يوماً لنقرأ تعابير وجهه، ونسمع ردوده، فيما رحنا نقهقه وحدنا على نكاتنا السخيفة، أو "نتفلسف" دون دراية واضحة حول انفصال جنوب السودان، أو أزمة دارفور، أو حتى أسباب تفوّق الهلال على المريخ. ولم لا؟ فهو "طيب".

ولأنه "طيب" حقاً، فلن أؤيد الرأي السائد بأن يبتعد الشارع الخليجي كلية عن الأحداث اليومية في السودان، وألا يحشروا أنوفهم فيه تعليقاً وتساؤلاً وتأييداً ومعارضة.

فأليست فرصة مثالية لنحاول فهم هذا الشعب الطيب؟