لبنانيون يتظاهرون احتجاجاً على الفساد (أرشيف)
لبنانيون يتظاهرون احتجاجاً على الفساد (أرشيف)
الإثنين 31 ديسمبر 2018 / 20:13

الياقات اللبنانية

هل هو صدى لبناني للياقات الصفراء الفرنسية "بالفعل بدأ بيع الياقات في شوارع بيروت".

نزلوا الى الشارع ليسخروا من أزمات السلطة، ومن عجزها من الخروج من أزماتها. لقد نزلوا مستهينين بالمحاصصة الطائفية. نزلوا من أجل عمل وضمانات صحية، من أجل حكومة ضمانات لا حكومة تتنازع تمثيل واحد

لا يعرف أحد كيف يحلل نزول اللبنانيين الى الشارع قبيل عيدي الميلاد ورأس السنة، الفترة التي تكاد تكون عطلة.

يعود الطلاب إلى بيوتهم وينتظر الموظفون الظهيرة المباركة التي يغادرون فيها مكاتبهم ليمضوا بقية اليوم الذي يسبق الميلاد في بيوتهم، وبالتأكيد تزدحم المحلات "إذا كان هناك معيار للإزدحام" بالزبائن الذين يقلون يوماً بعد يوم وهم الآن كثرة فقط في المحلات التي خفضت بصدق وجدية "أسعارها".

هل هي أصداء لبنانية للياقات الصفر الفرنسية، لا نستغرب أن يكون الأمر كذلك في لبنان حيث الانفتاح يجعل التأثر السريع ممكناً، وحيث النظام القائم على انقسامات تخفي أحياناً عنفاً مستتراً قابلاً كل لحظة ليتلقى إشارات الانتفاض، ليعود بعدها، وبالسرعة نفسها، إلى ركود مقيم.

لم تكن أعداد المنتفضين كبيرة، بضع مئات وربما آلاف قليلة نجموا من الأرض في الشارع. كانت سبقتهم محفزات، بضع تحركات، وخيبة من قيام الوزارة بعد أن كانت على الأبواب وبعد انتظار أكثر من سبعة أشهر.

كان فشل قيام الوزارة، هذه المرة، مريراً لا لأن كل شيء شارف الحلول وباتت الأمور سلسلة وسهلة، بل لأن أحداً لم يفهم جيداً السبب في انكفاء الحل.

الأسباب الأولى كانت أوضح وكان ممكناً تفسيرها من داخل آليات النظام اللبناني، التي يمكن ردها دائماً الى علاقات الطوائف، وهي عند ذلك تكون واضحة ومفهومة من اللحظة الأولى، أما حين يكون السبب تنازع أطراف كثيرة على انتداب السيد جواد عدرا عن سُنة 8 آذار ما أحرج الطرف الذي كان مفترضاً أن يتسلّم الوزارة مندوباً عنه، أي سُنة 8 آذار.

لقد شاءه لبنان القوي جناح رئيس الجمهورية ممثلاً له وهو لم يمانع، ما جعل سُنة 8 آذار لا يجدون فيه ممثلهم ومندوبهم. المهم أن السبب كان هذه المرة، خارج اللعبة، هزيلاً وغير مفهوم. لقد بدت السلطة كلها معه ركيكة، واللعبة كلها معه هزيلة.

لا نعرف إذا حفزت هذه الواقعة إلى النزول إلى الشارع والتظاهر في كل لبنان لكن بأعداد غير حاشدة لم تمنع أن يكون الزخم أكثر نضالية هذه المرة، والاندفاع أمضى والوعود أكثر. لقد نزل الناس إلى الشارع في وقت غير منتظر.

 كان هذا أكثر جذباً للإعلام وأكثر استنفاراً له. في أيام كهذه لا يُنتظر فيها أحداث كان الحدث ماثلاً.

كان هناك غير الميلاد، وغير رأس السنة في الصدارة. ليس فقط تظاهراً ونزولاً إلى الشارع، لكن أيضاً بعض العنف الفطري، تكسير محلات صرافة، وصدام مع القوى الأمنية لعدة دقائق. نسخة صغيرة عن الياقات الصفر.

لم تكن أعداد حاشدة لكن نضالية الحدث كانت أكبر. بقي الناس وقتاً أطول في الشارع كان أشبه باحتلال له، ولم يخطر لأحد أنهم سينسحبون إلا حين تأكد الانسحاب. ظل المتظاهرون يصوغون بسرعة ارتجالية مطالب متنوعة "البطاقة الصحية، الضمان، توفير العمل، الكهرباء، المياه، التعليم".

رفعوا أصواتهم لا نجد عملاً، ليس لنا إلا الشارع، أعطونا عملاً، لا نجد خبزاً لأطفالنا. كلام كهذا قيل بضع مرات وكان وقعه أكبر من صداه وحجمه. هذا الكلام حوّل الحدث إلى انتفاضة.

 جعل الحدث أكبر وبكثير من حجمه، جعله يتلون بالعنف وبالإصرار، بل جعل العنف الذي بادر إليه البعض أكبر من حجمه، بل جعل الواقعة كلها تخرج عن التقليد اللبناني، هذه المرة لم تكن علاقات الطوائف هي المشكلة، ولم يكن وراء الحادث حافز طائفي، ولم يذكر أحد الوزارة رغم أن مسألتها التي تدور من سبعة أشهر أظهرت أن لبنان القوي ليس قوياً، والجمهورية القوية ليست قويةً، والبشارة ليست بشارةً.

نزل الناس إلى الشوارع لا ليطالبوا بقيام الوزارة التي أعاق تأخرها الدولة بل ترك البلاد بلا سلطة وجعل كل شيء مؤجلاً. النازلون إلى الشوارع لم ينزلوا من أجل ذلك ولا في سبيله.

بدا أنهم أكثر وعياً من ذلك. يأسهم من الحكومة والسلطة كان بادياً. لقد نزلوا الى الشارع ليسخروا من أزمات السلطة، ومن عجزها من الخروج من أزماتها. لقد نزلوا مستهينين بالمحاصصة الطائفية. نزلوا من أجل عمل وضمانات صحية، من أجل حكومة ضمانات لا حكومة تتنازع تمثيل واحد، أياً كان هذا الواحد.

لقد نزلوا كأقلية لا دخل لها بالطائفية، مدركةً أن هذا وحده شرط الانتفاضة، وهذا وحده شرط الضمانات، ومهما يكن من أمر فإن النازلين وعدوا بجولات أخرى.

إنهم يعرفون الآن أين تكون الانتفاضة وأين يكون التغيير. هذا وحده كفيل بأن يجعل الأعداد أكبر والنزول انتفاضةً والمطالب أكثر جذرية.