الثوري الأرجنتيني تشي غيفارا (أرشيف)
الثوري الأرجنتيني تشي غيفارا (أرشيف)
الإثنين 31 ديسمبر 2018 / 20:03

ذات رأس سنة بعيدة.. بدلة زرقاء وكوب أحمر ومرايا مشروخة

ندوب الجسد تصغر أو تتلاشى، لكن ندوب الروح تكبر وتوجع حتى الممات، لذا يقال إن الحي أبقى من الميت، إلا اؤلئك الذين كانوا واقفين.. قتلوهم، وما ماتوا

في منفاه الاختياري في شقة صغيرة بعيدة عن البلاد يقضي الستيني ليله الطويل الموحش بالتدخين ونوبات الحنين إلى وطن يبدو الآن أبعد كثيراً مما كان. يفتح صندوق ذاكرته ويستعيد مشاهد متوهجة لم تشطبها سنوات العمر والقهر والجمر، ولم يحجبها انسداد الطرق والشرايين. يوقن في هذه الليلة أن المتمرد لا يشيخ، وأن الشعر الأبيض وتجاعيد الوجه وآلام الركبتين ليست إلا تمويهاً لمخادعة الزمن. في ما مضى كان فاشلاً في التمويه، وكان واضحاً تماماً في تمرده، لكن الزمن له قوة خارقة.

يستذكر رأس سنة بعيدة استقبلها في العتمة..

كان الفتى مبهوراً بغيفارا، لكنه لم يحظ يوماً بارتداء القبعة الحمراء، ولم يعض على سيجار كوبي وهو يتسربل في عتمة ليل الحي الشعبي في ضاحية العاصمة بعد اجتماع الخلية الحزبية.

وكان يحب القمصان الخضراء الداكنة.. يلبسها صيفاً وشتاءً، ويحرص على إبقاء أزرارها العلوية مفتوحة، ليظل صدره مكشوفاً، لكن الطعنة كانت في الظهر.

تقرير من مخبر مجهول، سيعرف في السنين اللاحقة أنه كان رفيقاً متطرفاً في ثوريته، حول أحلامه إلى كوابيس، وأغلق باب الأمل ليفتح له باب السجن، حيث لا قمصان بلون الزيتون ولا كتباً تدفئ قلبه تحت السترة الجيشية الغامقة ذات الياقة المرفوعة التي تحمي أذنيه ونصف وجهه من لفح الهواء البارد في ليالي اللقاءات السريعة مع رفاق مجهولين يسلمونه رسائل التنظيم في الأزقة الموحشة التي كان يسمع فيها صدى صرير الريح.

في الزنزانة وفي الممر الضيق بين صفي الزنازين وفي غرفة التحقيق، لا يكسر ثنائية الرمادي والأسود إلا بدلة السجن الزرقاء، وكوب بلاستيكي أحمر، تخثر في قاعه بعض الشاي وقهر عشرات وربما مئات النزلاء الذين جيء بهم إلى هنا، ليسكنوا في الزنزانة رقم 10.

لم يشغل باله في التفكير بمن وشى به لجهاز الأمن، ولم يحاول تحديد هوية المخبر، أو تخيل لحظة الانتقام منه، فهو واحد فقط، لكن الرفاق كثر.. وسينكشف ذات يوم. لا بد أن ينكشف.

قرر الفتى، بعد جلسة التحقيق الأولى، عدم التفكير بأمر المخبر، فلديه ما يفكر به وما يشغله أكثر من هذا الموضوع التافه.. هكذا كان يقاوم فضوله المعذِب، وكان يجهد في إقناع نفسه بأن الحقد ليس طبعا ثوريا، وأن المخبر مجرد ضحية. هو مجرد كائن جبان، لم يستطع قول "لا".

كان يقول لنفسه: "ينبغي أن أفكر الآن في الصمود فقط، ولا بد أن أكون متيقظاً وحذراً من نوازع السوء، فالنفس أمارة بالسوء.. والسقوط نهاية مفزعة لمن يحب أحلامه، ويعرف أن جلده لا يتغير".
 ندوب الجسد تصغر أو تتلاشى، لكن ندوب الروح تكبر وتوجع حتى الممات، لذا يقال إن الحي أبقى من الميت، إلا اؤلئك الذين كانوا واقفين.. قتلوهم، وما ماتوا.

وكان يقول لنفسه: لا أريد السقوط ولا الموت، لأني أحب الحرية والحياة. وإن استطعت الحياة الآن فهذا يكفي.

مرت ساعات النهار الأول بطيئةً ومشحونةً بالغموض، ثم مرت جلسة التحقيق بلا تعب. في الواقع كانت أشبه بلقاء تعارف. أبلغه ضابط التحقيق أن من واجبات الدولة تجاه مواطنيها أن تحافظ على سلمهم وسلامتهم، وأن تعيد الضالين إلى رشدهم، وكان واضحاً في تعريفه له بالفتى الضال. وقبل أن يستدعي العسكري لاقتياده إلى الزنزانة، دعاه إلى التفكير في الخلاص.

صمت ولم يجب، لكنه كان حازماً في أمر نفسه برفض دعوة السقوط.. وقد فتح الرفض باب غرفة التعذيب.

في الليالي اللاحقة كان يسهر على إيقاع اللكمات، والركلات، وشتائم المحققين في الغرفة السوداء التي كانت مخصصة لحفلات التعذيب في الليل، وحلاقة الشعر لبعض الموقوفين في النهار.

وكان خوف المحلوق لهم أكبر وأشد من خوف المعذبين، لأن الغرفة السوداء كانت تضاء في النهار، فتبدو جدرانها ملطخة بالدم النازف من ضحايا الليل الأسود.

في "حفلته" الأولى لم ينطق بكلمة، لكنه بكى كثيراً من الوجع، وبكى أكثر حين مسح كفه المبلولة بالدم من أنفه النازف على جدار الغرفة السوداء، وكأنه كان يوقع على حائط غرافيتي الدم.

ومرت أسابيع كان فيها الفتى يئن حتى يغلبه النوم الذي يجمد وجعه حتى طلوع الفجر.

ذات فجر صدر قرار الإفراج، وخرج الفتى إلى الحياة ولم يكن يعرف إن كان السجن يغير البشر.

قال لنفسه، سأراني في المرايا، ولم يكن يعرف أن المرايا لا تكشف ندوب الروح.. لم يكن يعرف أن كل المرايا مشروخة وأن الوجوه فيها بلا عيون.