السبت 12 يناير 2019 / 20:47

التكفيريون الجدد

"أنت كافر" .. "أنت خارج من الملة" .. "أنت مرتد"، عبارات يمكن لأي مسلم إن يسمعها من أي متطرف ينتمي إلى أي من الجماعات والتنظيمات التكفيرية، التي يظن الموالون لها أنهم وحدهم المؤمنون، وأن كل من سواهم يعيشون في جاهلية تامة.

يكفرون الناس، حتى لو كانوا يرونهم يعتادون المساجد، ويؤدون فرائض الإسلام، ويتسابقون في الخيرات، ولا يصدر عنهم إلا كل كلام طيب، وكل فعل يرضاه الله سبحانه وتعالى.

يتوهم التكفيريون أن أشياء من قبيل المباح والمندوب والعفو هي في صميم الاعتقاد ولذا فإن من يتكاسل فقط عن أدائها هو في نظرهم خارج على الدين، ليس من جناح على من يقتله أو يسلبه ماله وينتهك عرضه.

ويتوزع التيار التكفيري على الكثير من الجماعات والتنظيمات المتطرفة التي توظف الإسلام في سعيها الحثيث لاقتناص السلطة السياسية والثروة الاقتصادية، لكنها ليست سواء في المجاهرة برأيها وموقفها هذا، فبعضها يعلن تكفيره للمختلفين معه جهاراً نهاراً، وبعضها يهمس بهذا في حذر، وبعضها يلتزم الصمت، لأسباب عديدة، منتظراً أن تسنح له الفرصة كي يجهر بالتكفير دون إبطاء.

ورغم أن كثيرين يعتقدون أن التكفير لدى جماعة الإخوان قد بدأ مع أفكار سيد قطب فإن مراجعة ما طرحه مؤسس الجماعة حسن البنا نفسه تؤكد أنه واضع بذرة التكفير، وإن كان بطريقة غير مباشرة، فالأصول العشرون للبنا تنتهي بتحديد موقف من هذه القضية يقول البنا بشأنه: "ولا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض ـ برأي أو بمعصية ـ إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة, أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر".

مثل هذا القول المراوغ المتناقض يبين أن البنا قد أفسح طريقاً للتكفير من باب المعلوم من الدين بالضرورة، أو تكذيب القرآن، أو تأويله بشكل ما، لاسيما أن من سيحكم على الفرد في كل هذا هو أتباع الجماعات المتطرفة أنفسها، والتي لم ينصت بعضها إلى محاولة البنا التخفيف من غلواء رأيه حين أقر بأن الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء وأن لكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب. فهذا التخفيف لم يلزم حتى التنظيم أو الجهاز الخاص للجماعة الذي أنشأه البنا، وارتكب أفظع الجرائم، ولا يزال.

وقد سبق لجماعة الإخوان أن استحلت دماء المعارضين لها، بعد تكفيرهم ولو لم تعلن هذا على الملأ، وذلك قبل انضمام سيد قطب لها. فقبل ثورة يوليو 1952، حيث ارتكب التنظيم الخاص أعمال اغتيالات وتخريب ممتلكات، ليتبني فيما بعد أفكار قطب التي تفسق وتجهل وتكفر المختلفين في الرأي، ليصبح هذا الفكر هو المتحكم حاليا في الجماعة، بعد أن تخلصت تباعاً من أفراد قلائل كانوا أصحاب نزعة إصلاحية، لديهم رغبة في التفاعل مع أفكار مدنية وتحديثة في المجتمعات المعاصرة.

وقد سقى سيد قطب بذرة التكفير التي رماها البنا في تربة المجتمع، وأضاف إليها من بعض أفكار أبي الأعلى المودودي، فنمت واستوت على سوقها، وانتقلت معه من التلميح إلى التصريح، ومن تكفير الأنظمة الحاكمة إلى تكفير جموع المسلمين، الذين هم في نظره يرسفون في أغلال جاهلية جديدة. وواصلت الثنظيمات التكفيرية سقي هذه الشجرة المحرمة، وفي مطلعهم شكري مصطفى الذي أسس ما أسماها جماعة المسلمين" وسماها الناس "التكفير والهجرة"، خارجا بنتائج لم تخطر على بال قطب نفسه، حين اعتبر أن أتباعه هم فقط المؤمنون، وأن ما عداهم كفار أشرار تستباح دماؤهم وأعراضهم وأموالهم.

ومنذ منتصف السبعينيات بدأت أفكار قطب التكفيرية تسري في أوصال الجماعات المتطرفة في مشارق الأرض ومغاربها، لاسيما أفكاره حول الحاكمية والجاهلية والعصبة المؤمنة. وعلى التوازي بدأت هذه الجماعات تتوسع في المساحات التي أعطتها للعقيدة في فكرها، بحيث صارت أمور من الصغائر والهوامش تدخل لديهم في باب الاعتقاد، ما يعني أن كل من لا يلتزم بها يحق عليه الكفر في نظر هؤلاء المتطرفين.

وبالطبع فإن التكفير فتح الطريق أمام حمل السلاح في وجه المجتمعات المسلمة، فتوالت أحداث اغتيالات المسؤولين والمفكرين، والاشتباكات المسلحة مع الجيش والشرطة في أكثر من بلد إسلامي، وزُرعت القنابل في المؤسسات الحكومية والبنوك، ثم لم يلبث أن تطور الأمر في تعبئة الشباب للهجرة إلى أماكن يعلن قادة المتطرفين أنها وحدها أرض الإسلام، أو أرض الخلافة، مثلما رأينا في داعش، التي عبرت عن الصيغة الأكثر دموية المترتبة على التكفير والتي أسمتها "إدارة التوحش".

وعلى صخرة هذا التيار التكفيري تحطمت كل المقولات التي أطلقتها الجماعات والتنظيمات الدينية حول مناهضة الاستبداد والاستكبار والاستعمار، بعد أن تحول هؤلاء إلى معول هدم في يد أعداء العرب والمسلمين، حين فتحوا جبهات قتال بين المسلمين أنفسهم، وعملوا على توظيف الدين في تفكيك الدول، فأصبحت شوارع المدن العربية والإسلامية ساحات معارك وليس خطوط التماس مع الأعداء كما زعمت هذه الجماعات في بياناتها التأسيسية وخطاباتها الأولى.