متظاهرون فلسطينيون ضد الاحتلال (أرشيف)
متظاهرون فلسطينيون ضد الاحتلال (أرشيف)
السبت 19 يناير 2019 / 19:50

وراء صخب الاحتفالات

في كل عام تزدهر في فلسطين الاحتفالات بذكرى انطلاقة الثورة، ويتلو هذه الاحتفالات احتفالات فرعية بيوم الشهيد، ويوم الأسير، ويوم الاستقلال.

الجامع المشترك بين هذه الاحتفالات التي امتدت على مدى أكثر من نصف قرن، أنها تتحدث عن ماض مجيد وبطولات خارقة وإنجازات عظيمة، ولكن بلغة الماضي، مع إهمال يبدو متعمداً بفعل المكابرة لما يجري في الحاضر.

ولكي تذكر إسرائيل الفلسطينيين بواقعهم على حقيقته، تغزوهم كل يوم في عقر دارهم، وتستبيح حتى أدق خصوصيتهم الإنسانية حين يجمعون الكاميرات من بوابات المنازل والمتاجر، ويصادرونها للتحقق من وجود صور مطلوبين على شاشاتها، وكأنهم يقولون للفلسطينيين، خصوصاً أولئك الذين يحتفلون بأمجاد الماضي: "ربما يكون الخيال ملكاً لكم ولكن الأرض وما عليها ملك لنا".

هنالك كارثتان مزدوجتان يعاني منهما الإنسان الفلسطيني، خصوصاً أولئك الذين يعيشون في غزة أو في الضفة، كارثة تجذر الاحتلال وتوسع نطاق الاستيطان وحمل الشباب الفلسطيني على الهجرة، حتى بلغ عددهم الآلاف خلال هذه السنة فقط.

أما الكارثة الثانية فهي إنكار الطبقة السياسية الفلسطينية بأن هنالك أزمة في الأصل، ولو تم تتبع تصريحاتها لاعتقد من لا يرى ما يجري على الأرض أن الوضع الفلسطيني ينتقل من انتصار عظيم الى انتصار اعظم، وأن الإنجازات الفلسطينية تتوالى على نحو غير مسبوق، وأن التحرير وقيام الدولة صار قاب قوسين أو أدنى.

الكارثة الثانية أفدح من الأولى، فحين تنكر وجود كارثة، تكون قد أعفيت نفسك من التفكير بحلول لها أو البحث عن مخارج منها، وهذا ما ينبغي أن يقرع ناقوس خطر ينذر بتصفية قضية.

وضع كهذا، ليس مريحاً فقط بالنسبة للإسرائيليين، وإنما للعالم الذي يمنح للفلسطينيين ضريبة كلامية ملؤها التعاطف والإقرار بحقوقهم وحتمية بلوغها، دون أن يأتي أي منهم بحركة على الأرض تقرب الفلسطينيين، ولو سنتيمترات معدودة، من أهدافهم المقر بها.

المؤسف في الأمر كله أن الذي وفر ذرائع حاسمة لإدارة الظهر لهم من قبل الصديق قبل العدو، هم الفلسطينيون أنفسهم، حيث قلبوا في الواقع وبصورة عملية، وحتى تعبوية أولولياتهم التي كانت مقدسة، ولو تابعت أدبيات الطبقة السياسية بشقيها على طرفي الانقسام، لوجدت استغراقاً بنسبة 90% في المناكفات المتبادلة، والإجراءات التدميرية المتبادلة أيضاً، والتهديدات التي لم تبقِ ولم تذر والتي وصلت حد اعتبار تدمير احتفال بيوم الشهيد، أو أي يوم مماثل إنجازاً يستحق المباهاة وإدخاله في قائمة المآثر والتفوق.

يشعر المواطن الفلسطيني داخل الوطن، وفي المنافي، بحرج لم يسبق أن شعر بمثله من قبل، فبدل بريق الزهو الذي كان يلتمع في عيونه، وهو يحقق حضوراً قوياً في مواجهة صناع مأساته، وحضوراً أقوى في مجال الإبداع والتفوق العلمي والحضاري، فقد خبى هذا البريق وكيف له أن يظهر وأهل الأرض والقضية في حالة اقتتال دائم.

كم هو موجع لي وأنا أكتب بهذه اللغة، بعد أن أفنيت عمري وأنا أروج لكل ما هو جميل في حياة شعبنا وكفاحه الوطني والإبداعي. نعم إنه محرج حقاً ومؤلم أن يصحو المرء منا كل صباح ليجد اليوم الجديد أسوأ بكثير مما سبقه.

كلمة السر التي قد تخرجنا من هذا المأزق الوجودي بسيطة ومتاحة، إلا أن هنالك من لا يحب حتى مجرد سماعها، ألا وهي الاعتراف الشجاع بالمأزق وحجمه وخطره، فلعل في ذلك ما يحفز على إيجاد الحلول والمخارج.