من اليسار: الرئيس الفنزولي نيكولاس مادورو وزعيم المعارضة خوان غوايدو (أرشيف)
من اليسار: الرئيس الفنزولي نيكولاس مادورو وزعيم المعارضة خوان غوايدو (أرشيف)
الأربعاء 30 يناير 2019 / 18:06

إنّها حماسة فقيرة وضالّة ومضلِّلة!

قد يقول قائل إن الولايات المتحدة والدول الأوروبية لا تكن أيّ مودّة لنظام مادورو، وإنها تتمنّى سقوطه. لكنّ هذا القول، وهو صحيح وصائب، لا يلغي أنّ جذر المشكلة يكمن في مكان آخر، أي في المسار الكارثي، اقتصادياً وسياسياً، الذي سلكه النظام المذكور

لا يخطئ الذين يضعون الحماسة في مقابل العقل، والعقلَ في مقابل الحماسة. هذا لا يعني أنّ العقل فاقد للحماسة والعاطفة والانفعال حيال ما يراه مُحقّاً وعادلاً، لكنّه لا ينقاد إلى ذلك بالحماسة والانفعال.

يقال هذا وفي البال حدثان عالميّان كبيران، أوّلهما ما شهدته فرنسا في الأشهر القليلة الماضية من تظاهرات "السترات الصفراء"، والثاني ما تشهده اليوم فنزويلاّ من أزمة وانشطار في السلطة قد يفضيان إلى حرب أهليّة.

في حالة فرنسا، ما من شكّ في عدالة الكثير من المطالب التي رفعتها "السترات الصفراء"، لكنْ ما من شكّ أيضاً في أنّ الوسائل العنيفة التي اتُّبعت خطيرة ومُدانة، سيّما وأنّ النظام الفرنسيّ يتيح، بطبيعته الديمقراطيّة، كافّة الأشكال السلميّة والمدنيّة في الاعتراض. إلى ذلك، ثمّة اعتباران يستحيل القفز فوقهما في الوضع الراهن لفرنسا: من جهة، دور الجماعات المتطرّفة، يميناً ويساراً، التي حاولت أن تركب موجة الاحتجاج وتدفع بها إلى حدود النزاع الأهليّ المعطّل لعمل المؤسّسات. ومن جهة أخرى، حقيقة أنّ سقوط فرنسا في الفوضى تعني سقوط أحد المعاقل القليلة المتبقّية للديمقراطيّة الليبراليّة في أوروبا، وسط الصعود غير المسبوق للحركات الشعبويّة والقوميّة. ولا ننسى أنّ الممثّلة الفرنسيّة لهذه الحركات، أي السيّدة مارين لوبين، على أتمّ الاستعداد للانقضاض وتقديم البديل.

والحال أنّ اللوحة السياسيّة في فرنسا شديدة التعقيد، يزيد في تعقيدها ضرورة الجمع الصعب بين ضرورتي توفير شبكات الأمان لمن هم أفقر وأضعف ممّن تهدّد العولمة بتجاوزهم، وتحسين قدرات الاقتصاد الفرنسيّ المتراجعة على المنافسة وتوفير فرص العمل.

هذا كلّه لم يمنع تصاعد أصوات عربيّة كثيرة لم تكتف بالاحتفال بـ "السترات الصفراء"، بل أعلنتها فاتحة فجر جديد لفقراء العالم ومضطَهَديه، بل لمسألة طبقيّة لن يقف بعد الآن أيّ عائق في وجه بلورتها.

أمّا فنزويلاّ فلم يصل الأمر فيها إلى ما وصل إليه إلاّ بعد الانهيار الاقتصاديّ الرهيب الذي "أنجزه" نظام مادورو التشافيزيّ، مفجّراً، في ذاك البلد النفطيّ الثريّ، هجرة مليونيّة إلى كولومبيا وسواها من البلدان المجاورة. ولم يكتف مادورو بذلك، إذ حلّ البرلمان الشرعيّ والمنتخب وأحلّ محلّه برلماناً مزعوماً قاطعت انتخابَه أكثريّة السكّان الفنزويلّيّين.

قد يقول قائل إنّ الولايات المتّحدة والدول الأوروبيّة لا تكنّ أيّ مودّة لنظام مادورو، وأنّها تتمنّى سقوطه. لكنّ هذا القول، وهو صحيح وصائب، لا يلغي أنّ جذر المشكلة يكمن في مكان آخر، أي في المسار الكارثيّ، اقتصاديّاً وسياسيّاً، الذي سلكه النظام المذكور.

وكما في الموقف من فرنسا، انفجرت الأصوات العربيّة المتحمّسة لنظام مادورو، والمندّدة بـ"المؤامرة الأمريكيّة لإطاحته"، فيما لم يكترث أصحابها بمعاناة الشعب الفنزويليّ وآلامه.

واقع الأمر أنّ هذه الحماسة –سواءً كان مصدرها هوساً إيديولوجيّاً بالثورات والخضّات، كما الحال في فرنسا، أم عداء أعمى ومطلقاً لكلّ ما تفعله أميركا– لا تفعل سوى الإساءة إلى "الجماهير" التي تزعم الانتصار لها ولمصالحها. فهي، في فرنسا، تمهّد للاحتمال الشعبويّ، إن لم يكن الفاشيّ، وفي فنزويلاّ، تحوّل المجاعة والإذلال إلى مطلب شعبيّ مرغوب.

شيء آخر تفعله هذه الحماسة، هو إظهار الخفّة الطفوليّة لأصحابها الذين يرفضون، مرّة بعد مرّة، رؤية التعقيدات التي تحفّ بالظاهرات التي يتناولونها ويعلّقون عليها. كما يخسرون، مرّة بعد مرّة، صدقيّتهم وقابليّة "الجماهير" لحملهم على محمل الجدّ.