مقهى الشابندر الشهير في بغداد.(أرشيف)
مقهى الشابندر الشهير في بغداد.(أرشيف)
الإثنين 18 فبراير 2019 / 18:39

هل تذكرون شيئاً اسمه المقهى؟

رغم بقاء بعض الشواهد، تغير حال المقهى العربي، كما تغير رواده، ففي زمن التغريب واليأس تحولت المقاهي إلى مجرد أمكنة للقاءات التعارف السريعة، ولم يعد هناك من يطلب اليانسون والميرمية والبابونج فقد حل الكابوتشينو محل الشاي واستبدل فنجان القهوة بكوب من اللاتيه

قبل انتشار المقاهي الأجنبية التي لا تقدِّم القهوة وتستعيض عنها بالآيس كريم والدونت، كانت للمقهى مكانة خاصة في بلادنا، وكان رواد المقاهي أشخاصاً متميزين ومميزين، يشاركون في تشكيل الواقع الثقافي والسياسي في العواصم وينخرطون في حوارات لا تخلو من الإبداع الذهني والخلاصات التي تستنبط الحلول للمشكلات الحادة في واقع عربي مأزوم منذ تقسيم البلاد والعباد في "سايكس-بيكو".

كانتْ المدن تزهو بمقاهيها وبرواد هذه المقاهي من رجال سياسية وأدب يقودون الحراك السياسي والابداعي في بلادهم، وينهون لقاءاتهم وحواراتهم بالاتفاق على قرارات ملزمة. وكانت المقاهي مقرات لأحزاب وحركات سياسية مناوئة للاستعمار، وشهد بعضها مناسبات تاريخية مهمة كالمؤتمر الوطني الأردني الأول الذي عقد في مقهى حمدان في العاصمة عمَّان في الخامس والعشرين من يوليو (تموز) للعام 1928، بحضور 150 شخصية وطنية، ووضع المؤتمر ميثاقا وطنياً للبلاد.

وفيما يلي ذلك من سنين، كان مقهى الجامعة العربية في منطقة وسط البلد في عمَّان مكاناً للقاءات السياسيين البارزين. وفي هذا المقهى، تشكَّلت أكثر من حكومة أردنية ساهمت في صياغة الواقع السياسي والاجتماعي للدولة الخارجة من الانتداب البريطاني.

وعلى الضفة الأخرى من نهر الأردن، وتحديداً في مدينة نابلس الفلسطينية، كانت اللقاءات السياسية التي يشارك فيها زعماء وطنيون يرتدون الطرابيش تتم في مقهى الشيخ قاسم في البلدة القديمة، وهو المقهى الذي تحول بعد ذلك إلى نقطة للتجمع والانطلاق في المظاهرات الوطنية المناوئة لحلف بغداد والمؤيدة للحركات الوطنية في مصر والجزائر... والمعارضة لمشاريع التسوية العربية مع إسرائيل، والتي كان أوَّلها مشروع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة.

في دمشق لم تكن الحال مختلفة؛ حيث شكَّلت المقاهي مراكز تجمع وحوار للقيادات الوطنية، وكانت المظاهرات تنطلق من بعض هذه المقاهي في مناسبات مختلفة. ويقول المؤرخون إن مقهى "الهافانا" في العاصمة السورية كان المكان المفضل للقاءات الحزبيين من البعثيين والشيوعيين والاشتراكيين الذين كانوا ينخرطون في حوارات وجدل فكري وسياسي ساهم بشكل كبير في فتح باب الاجتهاد في صفوف العقائديين الملتزمين.

أما بغداد التي كانت ولا تزال تخرج من حرب إلى حرب، ومن معركة سياسية إلى أخرى؛ فقد لعبتْ فيها المقاهي أيضاً دوراً مشهوداً في الحراك الداخلي، وفي توجيه المجتمع وقواه الحية نحو التصدي للمؤامرات الخارجية. وكان لمقهى "الشهبندر" الذي تأسس في العام 1917 على أنقاض مطبعة الشهبندر دور طليعي في قيادة الحراك ضد الإنجليز وهو الحراك الذي كان ينطلق من هذا المقهى الصغير في شارع المتنبي في العاصمة العراقية. وقد حاولت التقصي والسؤال عن هذا المقهى لكنني لا أعرف إن كان ما زال قائماً أم طاله الهدم الذي قضى على الكثير من شواهد التاريخ الوطني في البلاد.

وعلى ضفاف النيل، وفي قاهرة المعز، لا يزال مقهى "ريش" يستقبل رواده من رجال الفكر والأدب والسياسة معتزاً بتاريخ طويل من استضافة رموز مصر يمتد لأكثر من مائة عام. وقد لعب هذا المقهى دوراً كبيراً في ثورة 1919 وخرجت منه أكبر المظاهرات في تلك الثورة، وتمَّ بعد ذلك اكتشاف آلات طباعة في سرداب المقهى كانت تستخدم في طباعة منشورات الثورة، وفي العام 1972، انطلقت منه ثورة الأدباء؛ احتجاجاً على اغتيال إسرائيل للأديب الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت. وواصل "ريش" أداء دوره السياسي، ولا يزال جاذباً لرجال الفكر والسياسة وقادة الإعلام.

رغم بقاء بعض الشواهد، تغير حال المقهى العربي، كما تغير رواده، ففي زمن التغريب واليأس تحولت المقاهي إلى مجرد أمكنة للقاءات التعارف السريعة، ولم يعد هناك من يطلب اليانسون والميرمية والبابونج فقد حل الكابوتشينو محل الشاي واستبدل فنجان القهوة بكوب من اللاتيه.
ما تغير أيضا هو الحديث في الفكر والسياسة، فقد صار حديث المقاهي محصورا في فضائح الفنانين وفرق كرة القدم، وحل التعصب للنادي محل الالتزام بالحزب، وصار الحديث عن خطة اللعب 424 بديلا للحديث عن القرار الدولي 242، ولم يعد في مقاهينا من يعرف الفرق بين جورج بوش وجورج حبش.