موقع عسكري إسرائيلي في هضبة الجولان المحتلة (أرشيف)
موقع عسكري إسرائيلي في هضبة الجولان المحتلة (أرشيف)
الأربعاء 27 مارس 2019 / 19:56

أبعد من الجولان...

بعد "هدية" مدينة القدس التي قدّمتها إدارة دونالد ترامب لدولة إسرائيل ولرئيس حكومتها بنيامين نتانياهو، تبرعت الإدارة نفسها بـ "هدية" أخرى هي مرتفعات الجولان السورية بموقعها الاستراتيجي الحاسم، وثروتها المائية الضخمة.

استضعاف سوريّا على النحو الذي عبّر عنه ترامب ونتانياهو مؤخّراً ليس عديم الصلة باستضعافها الذي أبداه نظامها وحلفاؤه

كثيرون توقعوا، ولديهم مبررات عدة، أن نشهد "هدية" ثالثة، في وقت يطول أو يقصر، هي الضفة الغربية أو معظم جغرافيتها. في الحالات جميعاً، وفي الحد الأدنى، أزال ترامب آخر العقبات التي قد تقف في وجه معركة نتانياهو الانتخابية الوشيكة.

لكن المسألة أبعد من معركة انتخابية في إسرائيل، لا بل هناك ما هو أبعد من الجلافة السياسية نفسها التي انطوى عليها سلوك الرئيس الأمريكي. إنه الجلافة الإيديولوجيّة إذا صح التعبير.

فالمعادلة المعمول بها اليوم في واشنطن تقول إن الأمر الواقع، كما تفرضه الحروب والاحتلالات، هو وحده الواقع الذي يُعتد به ويُبنى عليه. وهذا إذا ما كان يعيدنا إلى مبدأ الغابة، حيث "القوة هي الصح" Might is right، وحيث القانون لزوم ما لا يلزم، فإنه يبرر حالات مماثلة في عدادها استيلاء الروس على شبه جزيرة القرم مثلاً، مما لا يمكن أن تقره الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

فوق هذا، يتبدّى، مع "هدية" الجولان، أي حد تبلغه السياسة الأمريكية في عهد ترامب، لجهة التفرد بالقرار، الذي يشبه المزاج، وقلة الاكتراث برأي العالم ودوله ومؤسساته، بما فيها الدول الأوروبية "الحليفة".

إن ذلك كله إنّما ينم عن مدى خطورة هذا العالم الذي نعيش فيه راهناً.

مع ذلك، لا بد أن نرى بعينين اثنتين. ذاك أن القرار الأمريكيّ الجائر إنما استند عملياً إلى الخلفية التي حكمت مسألة الجولان.

فبعد أن خسرها النظام السوري بسهولة فائقة في 1967، وكان حافظ الأسد يومذاك وزيراً للدفاع، لم يحاول هذا النظام استرجاعها سلمياً، وكان هذا ممكناً ومتاحاً، إبان رئاسة الأسد الأب نفسه.

وجدير بالذكر أن إعلان 1981 الخطير لرئيس حكومة إسرائيل يومذاك، مناحيم بيغن، بضم الجولان إلى إسرائيل، لم يحض على أي مبادرة أو تحرك نوعي من دمشق التي اكتفت بترداد المواقف "المبدئية" والشتائم المعهودة.

لكن ما هو أهم من ذلك تجسده الصورة الراهنة لسوريا بعد العنف المهول الذي استُخدم ضد أكثرية شعبها، مصحوباً بالتدخلين الحربيين المباشرين لروسيا وإيران.

فإذا صح أن النظام القائم وحلفاءه قد كسبوا الحرب الأهلية عسكريّاً، فالصحيح أيضاً أنهم تركوا البلد أقرب ما يكون إلى جزر مبعثرة ومُدماة مطروحة على التقاسم والتوزيع.

والمخيف هنا أن يتحول "إهداء" مرتفعات الجولان لإسرائيل مقدمة لإهداء أجزاء أخرى من الوطن السوري للدول التي توجد راهناً في سوريا وتتقاسم رُقع النفوذ عليها.

ونحن نعلم، مثلاً لا حصراً، أن تركيا قد لا تكون بعيدة عن مطامع كهذه في الشمال السوري، وهو ما تعززه خطوات وإجراءات تُنفذ على الأرض وينظر إليها كثيرون بقلق بالغ.

بلغة أخرى، فإن استضعاف سوريا على النحو الذي عبر عنه ترامب ونتانياهو أخيراً ليس عديم الصلة باستضعافها الذي أبداه نظامها وحلفاؤه. وكلنا يذكر التعبير المهين الذي راج في فترة غير بعيدة: "سوريا المفيدة" دلالةً على الرقعة التي يتمسك النظام بها، فيما يساوم على سواها "غير المفيد" من مساحة الوطن السوري.

لقد قيل ذات مرة ما معناه أن الاستبداد هو ما يجلب الاستعمار، واليوم يقدم لنا ما يحصل في سوريا عينة حية عن هذا المبدأ.