الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.(أف ب)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.(أف ب)
الإثنين 15 أبريل 2019 / 19:39

أوربة القضية

أثبت الرهان على الولايات المتحدة أنه رهان خائب وكارثي، وثبت بالتجربة أن واشنطن لا تمتلك أوراق اللعبة إلا عندما يختار اللاعبون أن يضعوا أوراقهم في اليد الأمريكية

صحيح أن الفلسطينيين يمرون في أسوأ مراحل تاريخهم المعاصر، وهي مرحلة سوداء دشنها الرئيس الأمريكي بإعلان النوايا الظالمة وعززها بتنفيذ هذه النوايا في وضح النهار وبطريقة مستفزة لكل ما هو انساني، وبالغ في التنازل للاحتلال الإسرائيلي عن كل الحقوق الفلسطينية مستعرضاً توقيعه على قراراته الفجة أمام كاميرات التلفزة.

في هذه المرحلة السوداء أيضاً قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشارك في اللعبة، وبدأ تقديم بادرات إرضائية لإسرائيل من خلال إعادة جثة أحد جنودها المقتولين في سوريا قبل عشرات السنين، وما تبقى من عظام الجاسوس إيلي كوهين الذي أعدم في دمشق بعد كشفه في ستينات القرن الماضي. وكانت الجثتان هدية من بوتين إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو الذي يتربع على عرش الحكم في كيان كله يمين.

للوهلة الأولى يبدو أن لا أحد في هذه المرحلة السوداء يلتفت إلى الفلسطينيين أو يعير اهتماماً لقضيتهم الوطنية التي تنفرد بكونها قضية التحرر الوطني الوحيدة المتبقية في العالم بعد أن حققت الشعوب المحتلة استقلالها الحقيقي أو الصوري من الاستعمارات القديمة، ولم يبق غير سيئي الحظ الذين شاء قدرهم أن يكونوا في شرق المتوسط.

رغم ذلك يخطئ من يعتقدون أن الحصار اكتمل، وأن الأفق مسدود تماماً، لأن العالم لا يمكن اختصاره بأمريكا وروسيا رغم قوة القطبين، ولأن الصمت الصيني ليس جديداً، فهذا حال بكين منذ نشأة الصراع.

هناك قوى أخرى في هذا العالم، ولا أقصد هنا العالم الثالث المغلوب على أمره، ولا العمقين العربي والإسلامي للقضية وكل ما حفظناه من شعارات عن الانتماء للأمة وخلودها الافتراضي، بل أقصد الامبراطوريات الغربية في أوروبا التي تنهض الآن من رماد تبعيتها لأمريكا وتعمل على تخليق واقع عالمي جديد يكون فيه للقارة العجوز مكان طليعي في صناعة القرار الدولي بما ينسجم مع القيم الأوروبية وبما يتناقض في أحيان كثيرة مع الهوى الأمريكي.
أوروبا الآن كتلة قوية ومستقلة، ولم تعد تابعة بالمطلق للتوجه الكوني لأمريكا، وهي رقم فاعل في المعادلة الدولية، وقبل كل ذلك هي كتلة حضارية عميقة تضطر للاحتكام إلى قيمها في التعاطي مع قضايا العالم وفي مقدمتها قضايا التحرر، وقد أثبتت قدرتها على أداء هذا الدور في قضيتي روديسيا (زيمبابوي) وجنوب إفريقيا، حين كان محور الصراع هو قضية المساواة والعدالة في مواجهة التمييز والعنصرية.

أثبت الرهان على الولايات المتحدة أنه رهان خائب وكارثي، وثبت بالتجربة أن واشنطن لا تمتلك أوراق اللعبة إلا عندما يختار اللاعبون أن يضعوا أوراقهم في اليد الأمريكية. وقد جرب الفلسطينيون هذا الرهان فوصلوا إلى هذه المرحلة السوداء، وكان ينبغي عليهم البحث عن بدائل حتى قبل مجيء ترامب وقبل وعوده واعترافاته المشؤومة.

البديل القوي المتاح الآن هو أوروبا، والمشروع الوحيد الممكن الآن هو المطالبة بإنصاف الفلسطينيين وتمكينهم من العيش في وطنهم وعلى ترابهم ولو بالشراكة مع الغرباء القادمين من كل جهات الأرض، وهو مشروع يقتضي الصبر والمثابرة واللجوء إلى كل وسائل المقاومة لخلق واقع على الأرض يجعل من هذا المطلب هدفا إسرائيليا أيضا.. ويعرف الفلسطينيون جيدا كيف يمكن تحقيق هذا الهدف.

كل ما يتطلبه الأمر هو امتلاك الجرأة والشجاعة الكافية لتجاوز مشاريع ومبادرات التسويات الجزئية والذهاب إلى طرح جديد يكون فيه التنازل ممثلا بالقبول بوجود الغرباء على الأرض وليس تسليمها لهم.

لن يكون الفلسطينيون الآن نداً للاسرائيليين في دولة واحدة، وسيتعرضون للاضطهاد والتمييز العرقي والديني لكن هذا الاضطهاد هو الذي سيشكل مادة لنضال سيحترمه العالم كله باستثناء أمريكا.

بعد سنوات طويلة من أمركة القضية دعونا نجرب الأوروبة لأن فيها سوابق مريحة.