الروائية والشاعرة السودانية آن الصافي (أرشيف)
الروائية والشاعرة السودانية آن الصافي (أرشيف)
الأحد 19 مايو 2019 / 21:06

الكتابة للمستقبل

لكل زمن كتابته، فأشكال التعبير ومضامينها تتغير من وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، وإن بقي بعضها قادراً على تجاوز الأزمنة والأمكنة، حين يكون فاتن البلاغة، عامراً بالقيم والتصورات الإنسانية التي يحتاجها البشر دون انقطاع.

المغامرة الحقيقية هي كسر التابوهات الثلاثة، أو المحرمات الثلاثة، في حياتنا: الدين والسياسة والجنس، إنما هي مفارقة هذه الدائرة أصلاً، بحثاً عن أرض جديدة، غير مأهولة، لم تخط فيها الأقلام حروفاً

ورغم أن بعض القديم لا يزال صالحاً للقراءة والاستمتاع به، والاستفادة منه، فإن طريقة كتابته، أو أسلوبه، يختلف عما يستعد الجيل الجديد لقراءته، أو تلقيه. وتلك هي مشكلة العديد من كتب التراث، التي تحتاج إلى غربلة ليس على مستوى مضامينها فحسب، إنما أساليبها أيضاً.

وبعض القديم، من فقه وتفاسير وفكر، ليس سوى إجابة على أسئلة الزمان الذي كُتب فيه، ولهذا هو لا يصلح أبداً لحل مشكلات وأزمات زماننا، الذي تُطرح فيه تساؤلات جديدة، تتطلب إجابات راهنة، مربوطة بما نمر به، ونعاني منه. وبذا يكون تحكم الأموات في الأحياء على هذا النحو أمراً مفزعاً ومحزناً ومخزياً.

هذا يتطلب منا أن نفكر بالأساس في الكتابة الصالحة لأيامنا، سواءً في مجال الأفكار، والقيم، والتصورات، والرؤى، والمسارات، والاقترابات، أو ما يتعلق بأساليب الطرح، والتناول، والعرض والتداول.

لكن هذا لا يكفي، إذ علينا أيضا أن نكون على دراية، ولو جزئية، بما يجب أن نكتبه للمستقبل.

أتصور أن الروائية والشاعرة السودانية آن الصافي، صاحبة روايات "كما روح"، و"فلك الغواية"، و"توالي"، و"قافية الراوي"، و"مرهاة" كانت في طليعة المهتمين بهذه المسألة، حين راحت تكتب عدة مقالات، وتعد دراسات، وتطرح رؤى، حول "الكتابة للمستقبل"، من حيث ما تنطوي عليه، وما تجري فيه، وما تتهيأ له، وما تتفاعل معه، وما ينبغي أن تكون عليه.

وفي كتاب لها بهذا العنوان تقدم الكاتبة رؤية نقدية لأغلب الأعمال السردية العربية الراهنة فتقول: "في القرن الحادي والعشرين، أي في عصر المدن متعددة الثقافات، أي في عصر التكنولوجيا الرقمية، ما زالت معظم رواياتنا تدور حول ثالوث السياسة، والتاريخ، والجنس. ويمكننا أن نضيف التهجم الفج على المعتقدات الدينية أيضاً. ولا بد أن نسأل أنفسنا، من سيقرأ هذه الروايات الآن، ومن سيقرأها بعد عشر سنوات؟ أو بعد خمسين سنة؟"

إنه سؤال مهم، يتطلب من كل حصيف يطلع على ما بدأته آن الصافي في كتابها أن يطرح عليها سؤالاً جديداً، حتى نعرف ما تريده، وفي أي طريق تأخذنا، ألا هو، ماذا تعنين بالكتابة للمستقبل؟ وهنا تأتي إجابتها في مطلع كتابها أيضاً: "يجب التنويه إلى أن الكتابة للمستقبل لا تعني التنبؤ بما سيكون عليه القادم من أسلوب حياة، بل بما ستكون عليه الحياة الإنسانية حينها من منظور ومعطيات فكرية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وفكرية، وعلمية نعيشها في الحاضر بكل تفاصيله. الكتابة للمستقبل تعني أن نتحرر من التكرار النمطي الذي تعاني منه الروائية العربية المعاصرة".

تريد الكاتبة إذن ألا نتوهم أن المغامرة الحقيقية هي كسر التابوهات الثلاثة، أو المحرمات الثلاثة، في حياتنا: الدين، والسياسة، والجنس، إنما هي مفارقة هذه الدائرة أصلاً، بحثاً عن أرض جديدة، غير مأهولة، لم تخط فيها الأقلام حروفاً. وهذا يعني أنها تفرق جيداً بين "كتابة المستقبل"، و"الكتابة للمستقبل"، فالأولى تعني أن نكتب الآن ما سيجري بعد عقود وربما قرون، من خلال إطلاق خيالنا، وإيقاظ قدراتنا على التنبؤ، وكهذا جاءت كتابات "الخيال العلمي" و"الخيال السياسي" كما جسدته روايات مثل " 1984" لجورج أورويل، و"عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي.

أما الثانية فهي الكتابة التي تراعي متطلبات جيل جديد، أكثر تحرراً ووعياً وفهماً لعلاقة الكتابة بالتقدم والرقي والتفوق، ويمتلك قدرة على التوسل بالتكنولوجيا في القراءة والكتابة، وامتلاك مختلف الطرق للانفتاح على العالم، ما يعني الإيمان بقيم التعددية الثقافية في مواجهة المسار الأحادي الإجباري، والبحث عن الحكمة أياً كان منبعها أو مصدرها أو مكانها، والنزوع الإنساني الأوسع، والتخلي عن الخصوصيات والهويات الضيقة لحساب رؤى أكثر رحابة، وعدم التبرم من الاختلاف والمختلفين، والميل أكثر إلى الإبداع والابتكار على حساب الحفظ والترديد.

ويتطلب هذا من الكاتب أن يمتلك مهارات التواصل والاتصال، وحسن توظيف المعلومات العلمية، والقدرة على إنتاج نص يصل إلى أذهان كل الأعمار، وإمكانية إبداع طرق سرد ومضامين مختلفة. وقد عمدت الكاتبة أن تُضمن كتابها بعض نصوص من رواياتها المشار إليها سلفاً، باعتبارها تمثل نموذجاً لكتابة المستقبل كما ترى.

لكن السؤال الذي لابد من طرحه في هذا المقام هو: هل بوسعنا أن نكتب للمستقبل، ونحن نتجاهل الحاضر؟ أم علينا أن نهيئ الحاضر ليستقبل ويستوعب ويكافئ الآتي؟

إن كثيراً من كتاباتنا السردية ليس بوسعها أن تتفادى مشكلات مزمنة تعشش وتتشرنق في مجتمعاتنا، التي لا تزال تعيش زمن ما قبل الحداثة، بل إن جوانب تقليدية وقروسطية تمد أذرعها الثقيلة لتعرقل مسارات الحياة التي يكابدها الناس في بلادنا العربية دون استثناء، ومن بينهم المبدعين في مختلف المجالات.

ويفرض هذا على كثيرين منهم أن يعطوا أولوية لمعضلات حاضرهم، وهم يؤمنون إيماناً قاطعاً بأن تطويقها وتفكيكها وتذويبها وعبورها هو الذي يجعل المستقبل يولد على أكف الحاضر دون عناء.

إن الكُتاب في المجتمعات التي صارت متقدمة الآن، قد ظلوا قروناً معنيين بالكتابة عن واقعهم، بكل قبحه ومشكلاته، وواجهوا تابوهات صنعتها الكنيسة، وسلطة البابوات، والقصور، وسلطة الملوك، والملكيات العريضة، وسلطة النبلاء، والإقطاعيين، ومع هذا، وربما قبلهم، انخفاض الوعي لدى الأغلبية الكاسحة من الناس. وكان عليهم أن يواجهوا كل هذا على التوازي، موقنين أنهم كلما رفعوا وعي الموجودين في زمنهم، تمكنوا من تهيئة عقولهم لتقطع خطوة ولو ضيقة إلى الأمام.

كما أن كثيراً مما كُتب لمعالجة الحاضر الذي كان مقيماً في أوروبا خلال المدة الطويلة التي امتدت من نهاية القرن الخامس عشر وحتى ما بعد الثورة الفرنسية والماغناكرتا، لا يزال صالحاً للقراءة في أيامنا، من ضمن الأدب الكلاسيكي.

ولا يبدو هذا بالطبع بعيداً عن ذهن الكاتبة، فهي في كثير من المقالات التي ضمها كتابها تشتبك مع القضايا الأدبية، والاجتماعية، والإعلامية، والتنموية الراهنة، بل إنها تزيد على هذا في البحث عن اللغة المناسبة للجيل الحالي من العرب، والذي لم يعد مقبلاً على القراءة بالقدر الذي يتطلع إليه الكُتاب، أو منتجو المعرفة على ألوانها، وهنا تحلل اللغة المحكية، أو الشفاهية المتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والمتسربة إلى الكثير من النصوص التي تكتبها النخبة الأدبية والثقافية، وتبحث عن دور الإبداع في بث القيم الإنسانية النبيلة التي بوسعها أن تساهم في مواجهة التطرف الديني والإرهاب، ودور المسرح في بعث وتعميق الوعي الاجتماعي، وكيفية صناعة التغيير في هذا الزمن الفارق من حياة العرب.

إن الميزة التي تتمتع بها رؤية آن الصافي عن الكتابة للمستقبل هو الإحاطية على قدر الاستطاعة، وتحرير الذهن من تأثير الأدبيات المستقرة في مجال الدراسات المستقبلية وغيرها. فهي تتناول موضوعات عدة تحت هذا العنوان، وتحاول في كل واحد منها أن تبحث عما يصلح للمستقبل، وفي الوقت ذاته تطرح هذا بعقل حر، تسارع صاحبته إلى تسجيل كل ما عنَّ لها في عفوية هي أقرب إلى التفكير بصوت مرتفع، أو العصف الذهني، الذي يمكن أن يوصلها في نهاية الطريق إلى بلورة رؤية متماسكة حول هذا الموضوع المهم.