مصافحة (تعبيرية)
مصافحة (تعبيرية)
الأحد 2 يونيو 2019 / 21:30

في معنى التسامح وأنواعه

إذا كانت الصراعات الدينية هي أكثر التصرفات الممقوتة التي جعلت الحاجة إلى التسامح ماسة في زمن سابق، فإن بقاءها مع تصاعد العنف والإرهاب باسم الأديان، لم يجعل بوسع أحد قادراً على الاستغناء عن طلب التسامح

يعد التسامح أحد القيم الإنسانية المهمة، التي أدرك البشر بعد طول زمن قضوه في المعاناة من الأحقاد والتعصب للأديان والأعراق والطبقات والجهات، أنها ضرورية، لتمضي حياتهم في الدنيا على نحو سليم، فالصراع حول مختلف الهويات، طالما قاد إلى سفك دماء، سالت من عروق منتمين إلى كل الثقافات والمعتقدات دون استثناء، سواءً كان في شجار ينشب بين أفراد، أم في فتن كقطع الليل المظلم، وعمليات إرهابية بدافع الغل والثأر والحقد الدفين النابت في أرض مزروعة بأفكار دينية مغلوطة وتأويلات فاسدة والمدبر أحيانا على أكف أطراف سياسية لا تريد بنا خيراً، وكذلك حروب أهلية طاحنة تندلع حين يفشل المتشاركون في مكان وزمان واحد في إدراك أسس العيش المشترك، وأخيراً معارك بين جيوش نظامية، كانت وراءها تصورات مشبعة العصبية والتعصب.

وعلى مدار أكثر من قرنين من الزمن تسابقت عقول ونفوس عدة وانبرت للحديث والدفاع عن مسألة "التسامح" بعد أن أدركت عمق معانيها، ونبل مراميها، وواجهت ألسنة وأقلام الذين قدحوا في المسألة، إما انتصاراً لتعصب ممقوت، أو رفضا لأن ينظر إنسان إلى أخيه الإنسان من عل، حتى لو كان بدعوى التسامح معه، والصفح عنه، لأن في هذا إما شفقة، أو شعور بالتفضل.

ويعود التسامح في الثقافة الغربية إلى الكلمة اللاتنية "Tolere" التي تعني: "يُعاني ويقاسي". وفي الإنجليزية تعني كلمة Tolerance استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقده، وإقراره بالمساواة فوراً بين الأطراف كافة، دون إبطاء أو تدرج.

ومن هاتين الكلمتين تولدت كلمة Toleration وهي كانت تعني في بدايتها السماح بوجود كل الآراء الدينية، ومختلف أشكال العبادة، جنباً إلى جنب مع المعتقد السائد، وكانت تعني أيضاً تساهل الأسمى طبقياً أو تعليمياً مع الأدنى.

ثم أخذت اتجاهاً سياسياً واجتماعياً أقوى لتصير في مفهومها العام هي صورة التكيف التي بمقتضاها تميل الجماعات المتعارضة إلى الانسجام المتبادل، وتحاشي الصراع من أجل التوصل إلى حل عملي، وتعتبر القضية: عش واترك الآخرين يعيشون، مثالاً مبسطاً على التسامح.

ورغم أن مصطلح أو مفهوم "التسامح" جديد على المعاجم والقواميس والموسوعات السياسية والاجتماعية والفلسفية، والدراسات الدينية والأخلاقية والنفسية، فإن الناس كانوا تواقين إلى تجلياته وتمثلاته وتواجده في حياتهم، وإن لم يتلفظوا به، كما ننطقه نحن في زمننا الراهن، إنما كانوا يدورون حوله بالدعوة إلى قيم تشبهه، أو متماثلة معه، ومختلطة به، أو تشكل قيماً فرعية له.

ويتطابق المعنى اللغوي والاصطلاحي للتسامح، ويقدمان مراداً واحداً، وهو التساهل في معاملة الغير، وتقرير مبدأ الحرية لكل فرد من أفراد الجنس البشري، فيما يسلكه من منهج في حياته أو معتقد يؤمن به. وبذا صار التسامح هو أحد المبادئ الأخلاقية والإنسانية، التي تصف تفكير وتدبير يقوم على احترام أفكار الغير وممارساته.

وفي جذره العربي يعود المصطلح إلى الفعل "سمح" الذي يعني المعاناة والمكابدة والصبر والعفو والمغفرة وضبط النفس، أو كظم الغيظ، وتحمل الألم، ويرتبط في المجمل العام بقضية إقرار السلم الاجتماعي، الذي صار له نصيب وافر من الفقه الإسلامي المعاصر.

وأدرك كثيرون أن "التسامح" قيمةً واتجاهاً، لا يخص العلاقات الجارية والسارية بين البشر فحسب، بل هو ضرورة لحياة طبيعية سائغة.

فإذا كانت الكلمة في العلوم الإنسانية تعني قبول الآخر، والرغبة في التعرف عليه، مع احترام أفكاره، ومعتقداته، وممارساته، مهما بدت غريبة أو غير مألوفة، دون إجحاف أو استخفاف أو تحيز، فإنها في العلوم الطبيعية تُستخدم في مجال واسع من المعاني، على سبيل المثال، في الميكانيكا تعني السماحة، حدود الاختلاف المصرح به عن المعيار المثالي.

وفي علوم البيولوجيا يعني المقدرة على تحمل الآلام، ومقاومة الصعوبات، أو التكيف، سواء كانت الظروف المعيشية غير مواتية مثل التغيير في المناخ، أو التعرض لعوامل ضارة عدائية كيميائية مثل السموم أو حيوية مثل الميكروبات.

وفي العلوم الطبية والجراحة يبدو أن قبول الجسم للأنسجة والأعضاء المنقولة يعتبر نوعاً من التسامح والتعايش. وبذا يكون معنى التسامح ممتداً من القبول إلى التحمل إلى المقاومة، إلى الاحترام، إلى الغفران للعامل المختلف أو المؤذي، سواءً كان مادياً أو معنوياً. حسبما يرى د. علي النفيلي في كتابه "الإنسان بين العنف والتسامح".

وبمرور الوقت صار التسامح شيئاً يسري في أعماق نظم التفكير والتعبير السوي، وشيئاً نتعلمه بطريقة لاواعية من خلال العيش في بيئة ثقافية تنظر باحترام وتقدير إلى الظروف الصعبة التي يمر بها الآخرون، كما تأخذ في الاعتبار طبيعة المشاكل التي تخترق نظم التواصل الاجتماعي، ونظم إدرك الأشياء والتعبير عن الذات والحقوق والرغبات"، حسب قول عبد الكريم بكار، وصار التسامح الذي يعزز التعايش بين البشر دليلاً على الرقي في الدين، والعقل، والفطرة، والأخلاق.

وإذا كانت الصراعات الدينية هي أكثر التصرفات الممقوتة التي جعلت الحاجة إلى التسامح ماسة في زمن سابق، فإن بقاءها مع تصاعد العنف، والإرهاب باسم الأديان، لم يجعل بوسع أحد قادراً على الاستغناء عن طلب التسامح، في مشارق الأرض ومغاربها، لاسيما في ظل الحرص المتواصل على مواجهة "ذهنية الإرهاب"، و"الإرهاب الذهني" في آن.

ومع اتساع الرؤية حول معنى السياسة لتتجاوز فن الممكن إلى فن إدارة الاختلاف، ما يعني أنه طالما أن أفق السياسة هو ممارسة السلم الاجتماعي في جميع أشكالها، فإنها مرتبطة بالتسامح، حسب رؤية عبد الكبير الخطيبي.

إن الاهتمام بقضية التسامح والتعايش بات ضرورة اجتماعية في ظل الحاجة الماسة إلى التماسك الاجتماعي، الذي يقوم على أكتاف "التيار البشري العريض داخل كل دولة، في مواجهة جماعات أو تنظيمات متعصبة". وكذلك العمل المتواصل على مكافحة الإرهاب، الذي يتطلب التصدي للتعصب كمخزن للتطرف، وتوظيف التسامح كوسيلة غير تقليدية لتطويق الفكر المتطرف وإضعافه. كما للتسامح دور في تعزيز القوة الناعمة للدولة، عبر ترسيخ القيم والفضائل الخيِّرة، ورسم ملامح صورة ذهنية إيجابية عن شعب ما. كما بات ضرورة فردية في ظل حرص كثيرين على الامتثال لما تطالب به نصوص الأديان وتعاليمها، من التزام بقيم إيجابية تصب في مصلحة الناس.

وفي أغلب الأدبيات والاهتمامات يتوزع التسامح على عدة أنواع هي:
  
1 ـ الديني، ويتعلق بالإقرار بحق أتباع كل الأديان في ممارسة شعائرهم.

2 ـ الفكري، وهو احترام مختلف الآراء، والتحاور بأدب، وعدم التعصب لفكرة على ما عداها.

3 ـ السياسي ويتمثل بالأساس في ضمان الحريات الفردية والعامة، وقيام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة. ويقوم أيضاً على قدرة السلطة السياسية على إدارة التنوع والاختلاف الاجتماعي، والالتزام بالقانون الدولي الإنساني في العلاقات بين الدول.

4 ـ الاجتماعي الذي يعني تفهم وقبول عادات الآخرين وتقاليدهم النابعة من ثقافتهم، وخلفياتهم الدينية والعرقية والطبقية، من منطلق الاعتقاد الجازم في أن البشر بحاجة إلى التواصل، وأنه لا يوجد مجتمع متجانس تماماً.

وفي ركاب هذا يتم الإقرار باختلاف اللغات واللهجات، ومعها الآراء والأفكار دون تعصب أعمى للغة الأم، لأن هذا سنة حياتية، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ" ( الروم : 22).

لذا فمن الضروري احترام لغات الآخرين انطلاقاً من عدة حقائق هي أن اللغة التي ينطق بها أي فرد، ليست اللغة الوحيدة على كوكب الأرض، بل إن الفرد المسلم مطالب بتعلم لغة الآخرين عملاً بمبدأ ينبني على حديث نبوي يقول: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم".

 وعلينا أن ندرك أن تعلم ما ينطق به الآخرون يعزز إحساسنا بهم، وبغيرهم ممن ينطقون لغات ولهجات مختلفة، وفي هذا ثراء لثقافة الفرد، ومن ثم علينا أن نقدر الصعوبات التي تعترض الآخرين حين يتحدثون لغتنا.

في العموم فإن هذه الاتجاهات من التسامح تأتي من بابين أساسيين:

1 ـ الطوعي (الفردي) القائم على المزاج الشخصي أو الإرادة الفردية، وهو نابع من الذات، يقوم به الفرد لاقتناعه به، عن تجربة وخبرة، أو ثقافة، أو ذكاء، أو ورع ديني، أو عن مبدأ فلسفي يتمسك به.

2 ـ الإلزامي (الجمعي) وهو اتجاه اجتماعي يفرضه القانون ويحميه، وترعاه الدولة ومؤسساتها، وتسهر على تطبيقه، وتعاقب من يخالفه.

في ضوء هذا، مر المفهوم بمرحلتين الأولى تقيلدية، وتقوم على "الأبوية"، فيشعر المتسامح أو يوقن بأنه متفضل على من يتسامح معه. والثانية حديثة، إذ يصبح التسامح مبدأً قائماً على الحق، وينظمه القانون.

ومعنى هذا أن التسامح لم يعد مسألة مزاجية، بدافع الشفقة أو المّن والتفضل، لكنه صار داخلاً في حيز الحق والواجب الذي تنظمه قواعد مستقرة متوافق على وجودها في نصوص قانونية.