غلاف كتاب "لا وجه في المرآة" لعبده وازن.(أرشيف)
غلاف كتاب "لا وجه في المرآة" لعبده وازن.(أرشيف)
الإثنين 10 يونيو 2019 / 19:32

"لا وجه في المرآة".. جديد عبده وازن الجديد

ليس عبده وازن اليوم في «لا وجه في المرآة» إلا أمام قراءة بالمقلوب للعالم. إنه يبدأ من شيء ما، من فكرة ما، من ملاحظة ما. يبدأ من قراءة مضادة

يمكننا القول أن مجموعة الشاعر عبده وازن الجديدة "لا وجه في المرآة" (دار المتوسط) جديدة حقاً. إن بينها وبين مجموعات عبده وازن السابقة ما يشبه القطيعة. مجموعات عبده وازن السابقة تجري مجرى المدرسة اللبنانية، مدرسة تجمع بين رخامة واناقة ونفس ديني. ديني هنا شيء غير التدين، الديني تطلع روحاني، تطلع الى المطلق والى الشفافية والى الرخامة الأسلوبية والى المغامرة الروحية. المدرسة اللبنانية نقيض الفصاحة. لا نعني بالفصاحة هنا سوى النبرة الإسلامية. المدرسة اللبنانية منذ جبران خليل جبران والمهجريين بوجه خاص، تأتي من محل آخر، لا نقول إنه يمتّ الى الرومانسية والى الرمزية بخاصة كما يميل الى تلوين وغناء وسبحات فضائية، يميل الى الفصاحة خاصة، العنصر الذاتي والوجداني والتخييلي أساس فيها. لم تكن لبنانية هذا الأدب وحدها التي تتبع هذا المثال، بل نحن نصادفه أيضاً في التشكيل والموسيقى. نقول في هذه المدرسة إنها لا تعوزها الأناقة والتسامي والإعلاء والغناء والمثالية.

 إنها مدرسة قد يكون الإنجيل في أساسها وقد تكون الدعوة الروحانية طابعها، وقد تكون "العظة" على الجبل أمامها. ومهما تكن مقاصد هذه المدرسة فإنها مكتوبة بأسلوب نوراني، ولعل لبنان الذي تأسست ثقافته على هذا التراث فريد بهذا المعنى بين الثقافات العربية التي تعود في غالبيتها الى التراث الاسلامي.

تعود مجموعات عبده وازن الأولى الى التراث المسيحي والى المدرسة اللبنانية، الى الفرادة اللبنانية التي غيّرت في الكتابة العربية. هنا التدين ليس بمعنى التدين او العظة الدينية ولكن بمعنى نورانية الكتابة ووقوفها امام الفضاء الروحاني ومثاله. بهذا المعنى كانت مجموعات عبده الأولى ذات عصب ديني، لكن هذه المجموعات في آفاقها ونورانيتها غير مجموعته الأخيرة التي خرجت عن المدرسة اللبنانية تماماً. لقد انتهى هذا الحنين الريفي ودخلنا في عالم، ليست المدينة سمته الأولى فحسب، ولكن اليوميات وليست اليوميات وحدها، بل هناك الشعر الذي يساوي البوب ارت في انكبابه على الواقع وفي تحويله هذا الواقع الى فن. لقد انتهت الافاق الروحانية وما بقي هنا انكباب على التفاصيل، تفاصيل الفكرة وتفاصيل الوقائع وتفصيل العالم المادي والفلسفي وتفصيل السرد والنقاش. أي أننا أمام خليط متواز من عناصر شتى وأمام شعر يولّد مادة العالم، ومن قرارته ومن مسائله وأسئلته. المهم أننا أمام شعر يظل يلامس الأرض حتى حين يفكر، يلامس المادة حتى حين يخوض في زحمة العالم وفي ركامه، شعر يتحول الى واقعية مضادة.

"سحقاً ليقظة لم تدم طويلاً
... نائم لكنّ عيني الساهرتين
تسوقانني الى بلاد
أعود منها كل صباح"

ليس عبده وازن اليوم في "لا وجه في المرآة" إلا أمام قراءة بالمقلوب للعالم. إنه يبدأ من شيء ما، من فكرة ما، من ملاحظة ما. يبدأ من قراءة مضادة، من ارتباك، من حيرة، من سؤال معكوس، من لغز، من لعبة منطقية. يبدأ من مقدمة سردية، من السلب ومن الاعتراض ومن الضد. يبدأ من حيث لا ننتظر، لكنّ القصيدة مع ذلك تتسلسل، تتوازن، تتآلف وتتناسق. إنها اللحظة ترُوى بل تُفكَّر، بل تتشكل في نسق وتؤلف نسقاً. تُكتَب بلغة ملمومة من الحكي، لغة لا تتأنق ولا تتجمّل بقدر ما تبدو آتية من واقعة حياتية أو واقعة فكرية. إنها توجد منطقها وتوجِد فكرتها وتبدو حائرة بين المنطقي والغنائي والسردي. بل هي كشف يندمج فيه الفكر والسؤال والبناء.