منظر عام لميدان في نابلس (أرشيف)
منظر عام لميدان في نابلس (أرشيف)
الإثنين 12 أغسطس 2019 / 22:57

حين تركنا الجسر

لست معنياً في هذا الصباح بأخبار صفقة القرن، ولا يعنيني إطلاقاً ما يقوله دونالد ترامب وما يفعله جاريد كوشنر أو جيسون غرينبلات

في صباح اليوم الثاني من عطلة العيد أيقظني هديل حمامة تسكن على حافة شباكي، وتحاكي صورتَها في قصيدة مظفر النواب "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة"..

مرة أخرى على شباكنا تبكي
ولا شيء سوى الريح
وحبات من الثلج
على القلب
وحزن مثل أسواق العراق
. . .

هو يوم جديد، ولا جديد فيه، غير اختلال الروتين. لست مضطراً لحلاقة ذقني، ولا البحث في كومة الجوارب عن فردتين متشابهتين، ولا داعي لشرب القهوة على عجل، أو مراجعة الرسائل النصية الواردة إلى هاتفي.
لدي من الوقت ما يكفي لإهمال الوقت والاستغراق في نوبة استذكار لما مضى من جنون وفوضى بددها وقار العمر وروتين الوظيفة.

ولدي من التبغ ما يكفي لتنشيط خلايا الذاكرة، والهروب من حصار التفاصيل والأسماء الباهتة لفرسان المرحلة.
لست معنياً في هذا الصباح بأخبار صفقة القرن، ولا يعنيني إطلاقاً ما يقوله دونالد ترامب وما يفعله جاريد كوشنر أو جيسون غرينبلات.

يكفيني أن القدس ما زالت تصلي، وأن هواءها ما زال عِطراً في رئات العواصم. ويكفيني أن الجسر ما زال هناك مسيجاً باللهفة ومحروساً بأشواق العائدين.

هم يعبرون الجسر الآن محملين بالحنين وبما يظل حياً من ذاكرات الطفولة في البيوت القديمة وفي الأزقة التي لم يعتمها الاحتلال ولا أطفأ نورها البعد، وهم يكسرون التوقع الآثم، ويسقطون الرهان على خروج البلاد منهم بعد أن أُخرجوا من البلاد.

أتذكر الجسر، وأستعيد لحظة العبور في طريق الخروج من البلاد، ورائحة الحزن الطاغي على الذين كانوا يودعون آخر خشبات الجسر بالدمع.

كنت طفلاً. ولم أكن قد عرفت الحزن إلا في عيون من ودعونا في رحلة الخروج من البلاد التي عرفت في السنين اللاحقة أنها ليست مجرد بلاد بل وطن.. فراقه صعب وحضوره أصعب.

الآن، وبعد ما يقرب من ستة عقود على لحظة وداع الجسر، أستعيد اللحظة بكل تفاصيلها، وأتذكر الألواح الخشبية القليلة التي بني بها الجسر، وأذكر أنها كانت مبلولة، ولا أعرف إن كان البلل من ماء النهر أو دموع الراحلين.

والآن أعود إلى نابلس، وإلى سوقها العتيق، وموقف الحافلات التي كانت تقل الراحلين إلى المهاجر، وأذكر كيف تعثر والدي مرتين وهو يصعد إلى الحافلة، وكأن قدميه كانتا ترفضان الصعود. وها أنا أسافر من مدينة إلى أخرى وأجوب البلاد، وأعرف أن قدمي تبحثان عن وجهة صحيحة.

لا شيء أصدق من أقدام الرجال، حين تدوس في كل التراب وتظل تبحث عن الطريق.
بعد ستة عقود من الرحيل والسفر بين ثلاث قارات، أعترف بأنني لا أستطيع تصديق الخروج من البلاد، ولا أستطيع الخلاص من حلم العودة.

وها أنا أعيد اليوم قراءة رائعة الروائي السعودي عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر"، وأحلم بعبور الجسر مرة أخرى في طريق الرجوع، حتى وإن كان الرجوع الأخير.

توقفت الحمامة عن الهديل، وطارت عن حافة شباكي، لكن عشها ما زال هنا، وستعود إليه بعد ساعة أو بعد يوم أو بعد دهر، لأنها مسكونة مثلي بحلم العودة.


(إلى روح أخي صالح الذي مات في البعد)