الشاعر اللبناني جودت فخر الدين (أرشيف)
الشاعر اللبناني جودت فخر الدين (أرشيف)
الإثنين 19 أغسطس 2019 / 20:06

زمن صغير تحت شمس ثانية

"زمن صغير تحت شمس ثانية" لهدى فخر الدين عن دار النهضة العربية، كتاب بالعربية مع أن مؤلفته كانت تؤثر أن يُكتب بالانجليزية الى أن تناهى إليها صوت أبيها الشاعر بالعربية جودت فخر الدين، ولا نفهم من ذلك إلا أن الحفاظ على العربية شيء في السلالة.

عندما يصل جدي تتمدد السماء فوق العريشة وتنتظره ليخرج وفنجان قهوته يجلسان، جدي والسماء في الصباح يتحدثان

غير أن اعتذار الكاتبة عن الكتابة بالانجليزية لا يعني البت أن بها شكوى من العربية وأنها تفتقر إلى العربية المتينة، فالواضح أن السلالة تتحكم هنا، وأن وريثة الشاعر ورثت عنه شاعريته أو ما يشبه الشاعرية.

فنحن نقرأ نثراً مرصوصاً محكماً، ونحن نقترب من الشعر غير مرة ونقرأ بحساسية شعرية. في الفقرة الثالثة من أوائل الكتاب، "حاولت أن استيقظ باكراً لأراقب الشروق لكني لم أنجح بعد، في كل مرة يطلع الصباح فجأة، الليل والنهار لا يتحادثان هنا" في مكان آخر هو الرقم 8 من أوائل الكتاب نقرأ "لم أجد الشرق في دائرة الشروق ولم أجد شعراً في غرفها المعتمة، ليس إلاّ خيالات ملفات، وصفوف وطرائق ومناهج وبرامج كفيلة بأن تحوّل اللغة العربية الى جداول ضرب والشعر العربي إلى صوت خافت مستوحش".

ليس وراء هذا الكلام إلا شاعرية وحباً للغة والشعر. لا أظن أن السلالة عنه وإذا وصلنا إلى "أسمع الحائطين يتهامسان بصوت خافت" نقترب كثيراً من الشعر وإذا قرأنا "وهم جاؤوا إلى صفي يبحثون عن فريسة، وها أنا أصحو كل يوم لأحضر لهم حرفاً عربياً ليفترسوه".

لسنا في بلد عربي فالكتاب هو تجوال في الولايات المتحدة، في ولايات ومناطق شتى منها فيلادلفيا وإنديانا، غير أنها ليست تجوالاً فحسب، إنها عودة الى البلاد إلى جدها وأبويها، ثم أنها قصة حميمة مع أحمد الذي ليس سوى زوجها، وفي كل ذلك نفس الشغف بالعربية والتمرس بها والأحكام في تأليفها وصياغتها، لم أكن أتخيل أن اللغة أن تطرب هكذا دون أن تتكل على الأفكار "إنه شوق عظيم لأماكن لم أراها وأسماء ووجوهاً لم أرها لكني أسافر إليها على وقع بيت أو بيتين من الشعر".

أما حين يحين أوان الجد، عندما يصل جدي تتمدد السماء فوق العريشة وتنتظره ليخرج وفنجان قهوته يجلسان، جدي والسماء في الصباح يتحدثان "الليل والنهار لا يتحدثان"... "الحائطان يتهامسان بصوت خافت، إنه عالم متكلم عالم من ثنائيات متحدثة أو متهامسة والشخص نفسه يتحول إلى اثنين".

"باتت لي القدرة على مراقبة نفسي أراني وأسمعني حين أمشي إلى جانبي"، لا نعرف إذا كان لهذه الثنايات المتحاورة المندمجة أصل صوفي. لكن الأصل الصوفي ليس غائباً فضل فضاءً لأفكار عصية لم تجد كلماتها بعد "لم تجد كلمات لها بعد" لكن هذا الفضاء اللغوي الفضاء البلاغي "لكل المسافات التي يتعهدها أحمد كان خاضعاً لسكينة صعبة"، كانت كلمات ثقيلة كلمات حاضرة كلمات تفر فتلتصق بزجاج النوافذ.

هناك أيضاً الأشياء الحية، "في حديقة جدي لوزة عتيقة كانت اللوزة تحدق في البعيد وهناك أيضاً الأحياء مثل أحمد" وأنا لا أرى إلا يده تومئ إلي فأهيم بما تقدم لي من جموح نبيل.

نقترب كثيراً من الشعر حين نقرأ "لم ينم من اختبأ من نفسه" وحين نصل إلى الموت "ليس صوت أعلى من صوت جدي وليست صمت أشد وقعاً من صمته".