الرئيس الفرنسي السابق الراحل جاك شيراك (أ ف ب)
الرئيس الفرنسي السابق الراحل جاك شيراك (أ ف ب)
الخميس 26 سبتمبر 2019 / 21:55

جاك الشرس.. شيراك المفترس

كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، الذي توفي اليوم الخميس عن عمر ناهز 86 عاماً، أحد أبرز شخصيات اليمين الفرنسي، وأثبت طوال عمره، بين النجاحات الرائعة والإخفاقات المريرة التي عرفها، قدرة استثنائية على النهوض من جديد.

توفي الرجل الذي كان رئيساً لمدة 12 عاماً، وتولى رئاسة الوزراء مرتين، ورئاسة بلدية باريس ثلاث مرات، وأسس حزباً، وتولى عدة مناصب وزارية، "وسط عائلته بسلام"، كما قال صهره فريريك سالا بارو، زوج ابنته كلود.


لم يظهر شيراك للعموم منذ خمس أعوام، بسبب المشاكل الصحية التي أقعدت الرجل الذي عرفته الساحة السياسية الفرنسية ممتلئاً بالطاقة والحيوية، منذ أوائل ستينات القرن الماضي.

لكن شعبيته تراجعت خلال ولايته الثانية، وكان أول رئيس فرنسي سابق يصدر ضده حكم قضائي في ع 2011، لكنه حظي بعد تقاعده بتعاطف شعبي فرنسي غير مسبوق لم يتمتع به غير شارل ديغول أو فرنسوا ميتران بعد وفاتهما.

كان براغماتياً بعيداً من الأيديولوجيات، وأسس في 1976 حزب التجمع من أجل الجمهورية في حين كان يحلم بأن يكون وريثاً للديغولية، لكنه كان يعد نفسه قبل كل شيء من اتباع الرئيس السابق جورج بومبيدو. وبين إيمانه بالليبرالية وبالسلطة العامة وسياسته المحافظة جسد توليفة لتيارات اليمين الفرنسي.


"لا" لحرب العراق
اشتهر شيراك خاصةً بأنه الرئيس الذي قال "لا" للحرب الثانية على العراق، وأنهى التجنيد العسكري الإلزامي،  واعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية في الجرائم النازية، وانتقل إلى ولاية من 5 أعوام بدل 7، وأطلق صيحة إنذار في مواجهة تدهور بيئة العالم.

في فبراير(شباط) 2003، قدّم هانس بليكس المسؤول عن مفتشي الأمم المتحدة تقريره الجديد حول أسلحة الدمار الشامل في العراق، ودعا إلى عمليات تفتيش جديدة. في مجلس الأمن الدولي، أكد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك كولن باول، أن صدام حسين لا يلتزم بعمليات التفتيش، مطالباً بتدخل عسكري حاسم ضد صدام حسين.

ولك شيراك، كان مقتنعاً بأن الحرب ستزعزع استقرار المنطقة، وطالب بمواصلة عمليات التفتيش، فعهد لوزير الخارجية في حكومة جان بيار رافاران، دومينيك دو فيلبان، مهمة قيادة المعركة الدبلوماسية في الأمم المتحدة.


وأعلنت فرنسا في 14 فبراير (شباط) 2003 معارضتها للحرب على العراق عبر كلمة مدوية لوزير الخارجية الفرنسي. حظي موقفه من الحرب بالتصفيق في مجلس الأمن في سابقة نادرة في هذه المؤسسة.

وفي 18 مارس (آذار) 2003، أعلن شيراك أن "العراق لا يمثل اليوم تهديداً وشيكاً يبرر اللجوء إلى حرب فورية. فرنسا تدعو الجميع لتحمل المسؤولية في احترام الشرعية الدولية. إن الخروج عن شرعية الأمم المتحدة، وإعطاء الأولوية للقوة على القانون، يعني تحمل مسؤولية كبيرة".

شعبية كبيرة
وبعد هذا الإعلان، ارتفعت شعبية شيراك إلى مستويات قياسية، حيث قال ثلاثة أرباع الفرنسيين إنهم راضون عن خطوته.

بدأت الحرب الثانية على العراق في اليوم التالي بمبادرة من الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا. وتأثرت العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة بقرار شيراك لعدة سنوات، لكن الرئيس الفرنسي حظي برفضه للحرب، بشعبية واسعة في العديد من دول العالم.


ولكنه أثار أيضاً جدلاً حاداً حول استئناف التجارب النووية، وحل الجمعية الوطنية، وقال "لا" مدوية للاستفتاء الدستوري الأوروبي في 2005، ثم اتُهم بالافتقار لروح المبادرة حتى أن نيكولا ساركوزي وصفه "بالملك الكسول" وفي عهده تضخم العجز وارتفعت البطالة.

لكن الرجل الذي كان يشعر بالارتياح وسط الحشود الشعبية، كان يشاد بإنسانيته وتعاطفه وبساطته، وعُرف بشهيته للأطباق الفرنسية، ولثقافته الرفيعة ونسجه صداقات مع مليارديرات أقوياء مثل اللبناني رفيق الحريري الذي استضافه بعد مغادرة القصر الرئاسي.

"شيراك العرب"
وكان شيراك أول رئيس غربي يزور لبنان في 1996، بعد نهاية الحرب الأهلية في 1990، وكان أيضاً الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر جنازة صديقه رفيق الحريري، قبل أن يجمّد العلاقات الدبلوماسية الرفيعة المستوى مع سوريا التي اتهمت باغتيال الزعيم اللبناني.


ونعى نجل رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري الخميس، الرئيس الراحل بالقول: "غاب عن العالم اليوم رجل من أعظم الرجال الذين أنجبتهم فرنسا".

وتميّز ارتباط جاك شيراك بالشرق الأوسط بعلاقات شخصية وطيدة جمعته بقادة العديد من الدول العربية في ذلك الوقت.


وكان الراحل قريباً من نظيره المصري حسني مبارك، كما جمعته على مدار 25 عاماً علاقة صداقة قوية لالملك الحسن الثاني، العاهل المغربي، وكان أيضاً من كبار المعجبين بمؤسّس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إلى جانب علاقاته الودية بالسعودية.

"الدكتور شيراك"
فلسطينياً كان الرئيس الراحل الذي كان ياسر عرفات يلقّه بـ"الدكتور شيراك" اعترافاً منه بالدعم الذي كان يلقاه منه في الأوقات العصيبة، يُعد آخر رموز "السياسة العربية والمتوسطية" لفرنسا في خطاب شهير ألقاه في القاهرة في أبريل (نيسان) 1996.

ومن بين المشاهد الخالدة في الذاكرة العربية، مواجهته الشرسة في القدس الشرقية المحتلة في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1996 للشرطة الإسرائيلية التي حاولت التضييق عليه عند زيارته للمدينة القديمة، للقاء سكانها العرب، في لقطات شهيرة نقلتها قنوات التلفزيون العالمية.

وانفجر يومها الرئيس الفرنسي في وجه قائد الشرطة بلهجة ساخطة: "بنيّ، هل تريدني أن أعود إلى طائرتي؟". 


وبحسب الصحافيين إريك أيشيمان وكريستوف بولتانسكي فإن "صيحة الغضب هذه ستكون بمثابة نقطة تحول، وستجعل منه أسطورة، وستطبع سنوات عهده السبع وستحدد على الدوام صورة الرئيس في المنطقة".

نجاح بعد هزيمتين
كان شيراك منذ وصوله إلى منصب رئيس بلدية باريس في 1977، يضع نصب عينيه الوصول إلى قصر الرئاسة قصر الإيليزيه، وبعد إشرافه على العاصمة طيلة 18 عاماً، نجح أخيراً في تحقيق حلمه في 1995، بعد بعد هزيمتين في 1981 و1988 ضد الاشتراكي فرنسوا ميتران، واشتهر في تلك الفترة إلى جانب شراسته بدهائه السياسي الواسع، وتحالفاته المثيرة وافتراسه خصوماً وحلفاءً وتعرضه لطعنات كثيرة، حتى من أقرب المقربين منه، على غرار رئيس الحكومة السابق إدوارد بالادور، الذي طعنه بالترشح ضده لانتخابات الرئاسة في 1995 رغم التحالف الانتخابي المبرم بين شيراك وبالادور قبل ذلك بأشهر قليلة، ليتعرض إثرها بالادور إلى هزيمة مدوية، بعد فوز شيراك في الجولة الثانية من الانتخابات، ليطلق ما أسماه الإعلام الفرنسي يومها بمذبحة شيراك، الذي طهر صفوف حزبه من قيادات تاريخية وأخرى بارزة، انقلبت عليه بتأييد بالادور مثل وزير المالية الشاب يومها والرئيس اللاحق نيكولا ساركوزي، ما أضاف لقباً جديداً لشيراك، في فرنسا، جاك المفترس.

ولكن بعد عامين، ارتكب خطأً سياسياً كبيراً بحل الجمعية الوطنية لمحاولة الحصول على الأغلبية. في النهاية، أمضى ما تبقى من فترة ولايته التي استمرت سبع سنوات متعايشاً مع ليونيل غوسبان بعدما أجبر على تعيينه رئيساً للوزراء.

في 2002، حصل تطور جديد ووقف شيراك الذي وصفه خصمه جوسبان بـ "متعب ومنهك" في مواجهة جان ماري لوبن زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، فحصل على نسبة أصوات قياسية بلغت82.21% لن تتكرر حسب الخبراء في وقت قريب.


مناصب ومعارك
قبل رئاسة بلدية باريس ورئاسة الوزراء، شغل مناصب سياسية لا حصر لها، وزيراً للزراعة، وللداخلية ونائباً أوروبياً، ونائب فرنسياً. وخاض معارك لايمكن عدها، عند توليه رئاسة الوزراء، بما في ذلك معركته ضد الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان واستقالته في 1976، التي كانت سبب خسارة الأخير معركة الرئاسة ضد الاشتراكي ميتيران، في 1981، بعد أن حرمه شيراك من دعم اليمين المحافظ.


شيراك الإنسان
بعيداً عن السياسة كان شيراك أباً يعشق ابنتيه، لورانس الكبرى التي أصيبت بأنوريكسيا عقلية، أقعدتها تماماً طيلة 58 عاماً حتى وفاتها، والثانية كلود خبيرة الاتصالات ومستشارته المفضلة.

وكان الرجل أيضاً خبيراً في شؤون آسيا، وعاشقاً لليابان ومتخصصا في رياضة السومو ويتحدث الروسية، محترف في حوار الثقافات الذي يجسده المتحف الذي يحمل اسمه على رصيف برانلي المطل على نهر السين في باريس، ويضم قطعاً من "الفنون القديمة" التي كان مولعاً بها، إلى جانب شهرته العالمية في مجال جمع القطع الفنية الأفريقية النادرة، وولعه بالفنون البدائية.


نعي وإشادة عالمية
وفور إعلان وفاته، لزمت الجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس الشيوخ دقيقة صمت في ذكراه.

وسارع قادة العالم إلى الإشادة به، وبحكمته وبسياسته التي ميزت فرنسا طيلة رئاسته طيلة 12 عاماً، بين 1995 و2007.

وعبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن "حزنها البالغ"، وأشادت بـ"شريك رائع وصديق"، فيما تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن زعيم "حكيم وصاحب رؤية".

وعبر رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر عن "التأثر البالغ"، وتحدث عن "رجل دولة عظيم وصديق مقرب".

بدوره، أشار رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز إلى "قائد طبع السياسة الأوروبية"، فيما أشاد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بـ"زعيم سياسي رائع رسم مصير" فرنسا.


وفي فرنسا، عبر "المنشق السابق"والرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي عن "الحزن البالغ" وقال إن شيراك "لم يتنازل عن أي شيء بشأن استقلاليتنا، كما لم يتنازل عن التزامه الأوروبي العميق".

وقال رئيس الوزراء الفرنسي الاسبق فرنسوا فيون إن شيراك كان "أحد أسود السياسة الفرنسية".