ملصق فيلم "نوتينع هيل".(أرشيف)
ملصق فيلم "نوتينع هيل".(أرشيف)
الأربعاء 9 أكتوبر 2019 / 21:23

اللطف صائد السوريالية

عيون الكاميرات، وهي عيون مثل عيون الضباع، ضيقة ونهمة، تتلصص على آنا سكوت في منزل وليام ثاكر

في فيلم "Notting Hill"، أو "نوتينغ هيل"، 1999، للمخرج روجر ميشيل، وكاتب السيناريو البريطاني ريتشارد كورتيس، وهو من أفلام الرومانتيك كوميدي التي تتميز بذكاء شديد في بناء الحوار، يصف صاحب المكتبة الصغيرة، الممثل هيو غرانت، في دور وليام ثاكر، اللقاء بينه، وبين الممثلة الشهيرة جوليا روبرتس، في دور الممثلة الشهيرة أيضاً آنا سكوت، بالسوريالية واللطف. كان اللقاء سوريالياً، لكنه لطيف.

السوريالية واللطف لا يجتمعان في عبارة واحدة، بما أن السوريالية عنيفة قليلاً، وغريبة بعض الشيء، بينما اللطف فطري، بسيط، غير معقد، مثل ابتسامة جوليا روبرتس. اللقاء في فيلم "نوتينغ هيل"، بمعنى ما، هو لقاء بين الدراما الإنجليزية، وبين الإخراج الهوليوودي، أو بين كتابة الدراما البريطانية الثقيلة، وبين خفة الإخراج الأمريكي التجاري.

في الفيلم هناك تشهير هوليوودي واضح، بثقل دم الإنجليز، وعسر هضمهم في فهم النكتة، ومع ذلك تشعر هوليوود بالدونية دائماً أمام الدراما الإنجليزية. تُبادر آنا سكوت بتقبيل وليام ثاكر دون كلمات. يضرب وليام ثاكر ضربته المرحة، الثقيلة، ويقول لآنا سكوت، بأنه كان يريد أن يعتذر عن التعبير الكارثي "سوريالي لكنه لطيف".

كنا نعلم بحسب ميلان كونديرا أن الثقل والخفة لا يلتقيان، إلا أن السيناريست ريتشارد كورتيس، له قول آخر. الخفيف يتصيد الثقيل. اللطف صائد السوريالية. تقبل آنا سكوت اعتذار وليام عن تعبيره الكارثي، وترى أن تقديم حبات المشمش المنقوع في العسل قبل القبلة، كان أشد كارثية، أو كان أشد جاذبية. شرح وليام، وهو يُقدِّم لآنا حبات المشمش المنقوع في العسل، بأن طعم العسل أزاح تماماً طعم المشمش. تعجًّب وليام من محل إعراب المشمش، وقال: إذا كنتِ تريدين العسل، فلما لا تشترين العسل مباشرةً.

في مكتبة وليام ثاكر الصغيرة، المتخصصة في كتب السفر والرحلات، يدخل إنجليزي، ويسأل بوقار عن أعمال تشارلز ديكنز. يرد عليه وليام ثاكر، بأنهم يبيعون فقط كتب السفر والرحلات، وليس الروايات. يصمت الإنجليزي قليلاً، وكأنه استوعب إجابة وليام ثاكر. يقول الإنجليزي: حسناً، ثم يسأل عن أعمال جون غريشام، فيقول وليام ثاكر بأن هذه أيضاً روايات. يصمت الإنجليزي مرة ثانية، ويقول: حسناً، ثم يسأل عن "ويني ذا بو"، شخصية الدب الخيالية، الكرتونية، التي كتبها آلان ألكسندر ميلن.

باتفاق ضمني، بين هوليوود وريتشارد كورتيس، أشهر كتَّاب الدراما البريطانيين، تُنصب في فيلم "نوتينغ هيل"، فخاخ الكوميديا، لردود أفعال الإنجليز، المتأخرة، الكارثية، والناتجة ليس فقط عن انعدام سرعة البديهة، بل أيضاً عن إهمال، وكسل، ولا مبالاة، وثقة استعمارية غائرة، بأنهم أسياد العالَم.

تراود وليام ثاكر فكرة أن يبوح، لمساعده مارتن، بزيارة الممثلة الشهيرة آنا سكوت، لمكتبته الصغيرة، لكنه يتراجع في النهاية، لأن مارتن يبوح لوليام، بأنه شاهد مرةً في شارع كينسينغتون، الموسيقي والمغني البريطاني الشهير، وعازف درامز البيتلز في الستينيات، رينغو ستار. قال مارتن: أعتقد أنه هو، أو ربما كان "عازف الكمان على السطح" ل "توبي". يصحح وليام ثاكر لمارتن: تقصد توبول.

الفيلم الموسيقي الكوميدي "عازف الكمان على السطح" 1971، بطولة حاييم توبول. يقول وليام ثاكر لمارتن: لكن رينغو ستار لا يشبه توبول. يدافع مارتن بأن رينغو ستار كان بعيداً عنه. يقول وليام ثاكر: إذن من الممكن أن يكون مَنْ رأيته، ليس رينغو ستار. يرد مارتن بجدية وتأنق: أعتقد ذلك.

قسوة الدراماتورجي المحترف ريتشارد كورتيس غير محدودة في فيلم "نوتينغ هيل"، مع أنها قسوة فنية، فهو لا يحرم مارتن فقط من مجرد الرؤية العابرة لنجم الروك رينغو ستار، بل يفتح آفاق الفشل الكوميدي المُر في عقول المشاهدين للفيلم، بحيث أن أحدهم يتخيل ملصقاً كبيراً على أحد الجدران، بتوقيع بانكسي، لرينغو ستار وبول مكارتني، بينما يقف مارتن أمام الملصق العملاق حالماً، معتقداً، أن بانكسي وضع شخصاً مجهولاً مع النجم بول مكارتني، أي أن مارتن نفسه كان من الممكن له أن يكون بجوار بول مكارتني.

آنا سكوت في منزل وليام ثاكر، بعد فضيحة صور عارية قديمة، تظهر لآنا فجأةً في الصحف اللندنية. وليام ثاكر يشعر ببعد آنا سكوت، وعالمها الهوليوودي، عن عالمه الهادئ المغمور. وليام يساعد آنا في حفظ دورها الجديد. الفيلم عن إنقاذ كوكب الأرض من كارثة نووية، والبطلة ليس أمامها سوى عشرين دقيقة فقط.

تسأل آنا بمواربة عن جودة السيناريو، أو عن قيمة قصة الفيلم. يقول وليام ثاكر، بأن القصة ليستْ لجين أوستن، أو هنري جيمس، لكن لا بأس بها. لا بأس بها تعني الكثير بأداء هيو غرانت البارد. سخرية ريتشارد كورتيس من موضوعات السينما الأمريكية، تُقابَل بمازوخية من طرف هوليوود.

عيون الكاميرات، وهي عيون مثل عيون الضباع، ضيقة ونهمة، تتلصص على آنا سكوت في منزل وليام ثاكر. تغضب آنا وتتهم سبايك صديق وليام ثاكر، بإفشاء سر وجودها. يعتقد وليام ثاكر أن الصحافة ستنسي بعد يومين، أي أن الأمر لا يستحق غضب آنا. يزداد غضب آنا، فهي كنجمة سينمائية تعرف أن فضائح الممثلين تبقى للأبد.

سبايك بحماقته تحدث مع البعض عن وجود آنا سكوت في منزل وليام ثاكر، لكنه لم يقصد التربح المادي من الصحافة، وهذه نقطة هامة في أفلام الرومانتيك كوميدي، لا خيانة أخلاقية من أصدقاء البطل، لأنها خيانة تدمر نوع الفيلم من أساسه.

بعد فترة زمنية يعرف وليام ثاكر أن آنا سكوت ما زالت في لندن، وهي تقوم بتصوير فيلم، مأخوذ عن قصة لهنري جيمس. يذهب وليام ثاكر لموقع التصوير. بتردد تدعو آنا سكوت الإنجليزي الفاتر وليام ثاكر إلى مشاهدة اليوم الأخير من التصوير، وبمرح مكتوم، تقول له، بأن هناك الكثير من الشاي. غمزة أمريكية لتعلق الإنجليز الأبدي بفنجان الشاي.

يسمع وليام ثاكر بالصدفة حديثاً جانبياً بين آنا سكوت وأحد الممثلين الذي يسألها عن علاقتها بالشاب الإنجليزي. تقول آنا: شخص من الماضي. ينسحب وليام ثاكر. تعود آنا سكوت إلى مكتبة وليام ثاكر بعد الانتهاء من تصوير الفيلم.

يقول وليام لآنا بأنه لا يحتمل لطف النجوم وخفتهم، وأن قلبه لن يتعافى سريعاً في حالة غضب آنا المستقبلي. أنا أعيش في نوتينغ هيل وأنتِ تعيشين في بيفرلي هيلز. بين الابتسامة والدموع تذهب آنا سكوت.

وليام ثاكر بين مجموعته الطيبة، شبه الفاشلة وجودياً، يحكي لهم عن كلمات الانفصال الأخيرة بينه، وبين آنا سكوت. قالتْ آنا لي: الشهرة ليستْ حقيقية، لا تنسى أنني مجرد فتاة، تقف أمام ولدٍ، وتسأله الحب. تتلاقي نظرات المجموعة الطيبة في صمت، ولوحة شاجال الأصلية التي أهدتها آنا لوليام، مركونة بجوار الأثاث. يقول وليام ثاكر: قرار خاطئ. تصرخ المجموعة الطيبة طلباً لسيارة، تنهب المسافة بهم إلى آنا سكوت قبل سفرها.

في المؤتمر الصحفي يسأل واحد آنا سكوت، كم من الوقت ستمكثين في المملكة المتحدة؟ ترد آنا: إلى أجل غير مسمى. تطلق آنا أوسع، وأجمل ابتسامة عرفتها هوليوود في العقود الثلاثة الماضية. زفاف آنا سكوت ووليام ثاكر. ها هو اللطف في حديقة عامة، ينام على ساق السوريالية. آنا سكوت تنام على ساق وليام ثاكر الذي يقرأ في رواية، ربما تكون لهنري جيمس.