الكاتبة التركيو إليف شافاق (أرشيف)
الكاتبة التركيو إليف شافاق (أرشيف)
الخميس 17 أكتوبر 2019 / 19:03

حليب أسود... الكتابة والأمومة والحريم!

قدّمت الناقدة النسوية هيلين سيكسوس Helene cixous في مقالها "ضحكة الميدوزا" بياناً شهيراً عن الكتابة النسوية، بياناً دعا النساء إلى وضع "أجسادهن" فيما يكتبنه. وقالت عن نصها، إنه "مكتوب بالأبيض والأسود، بالحليب والليل"، ودعت إلى كتابة نسوية تخرج على مركزية اللغة.

حوَّلت الروائية التركية إليف شافاق معاناتها من اكتئاب مابعد الولادة إلى تجربة إبداعية عميقة حاولت من خلالها سبر أغوار نفسها من الداخل

ووصفت سيكسوس الكتابات النسوية باستخدام استعارات ولادة الطفل والإرضاع الطبيعي، والإشارات إلى جسد الأنثى. كما أنّ الروائية فرجينيا وولف كانت قد تخلّت عن معركة الكلام عن الجسد الأنثوي المتدفق بقولها: "اكتبي نفسك، يجب أن تسمعي صوت جسدك، فذلك وحده هو الذي يفجر المصادر الهائلة للاشعور"، "وليس هناك عقل أنثويّ عام بل هناك خيال أنثوي جميل غير محدود".

حولت الروائية التركية إليف شافاق معاناتها من اكتئاب مابعد الولادة إلى تجربة إبداعية عميقة حاولت من خلالها سبر أغوار نفسها من الداخل، والمقاربة الجريئة والصادمة أحياناً، لتجارب العزلة والأمومة، والحب والحياة، والكتابة والتدريس، والبحث عن الذات وصدقية الهوية الأنثوية.

وتنتظم المحاور جميعها في رؤية إليف شافاق الكونية المتماسكة، إذ تعرف نفسها قائلة: "إني كاتبة، إني رحالة، إني مواطنة عالمية، إني عاشقة الصوفية، إني مسالمة، إني نباتية، وإني امرأة على وفق هذا الترتيب على نحو من الأنحاء".

إن التعددية في الأدوار وهذه الكونية الناظمة هي التي جعلت شافاق تتماهى في سرد تجربتها في الزواج، والأمومة مع عدد من أبرز الروائيات في العالم على اختلاف مرجعياتهن الثقافية، والفكرية في سرديات متوازية مع حياتها، هي في كل مرحلة من مراحل حياتها" قبل الزواج، والزواج، والإنجاب والأمومة.

وفي محاولة منها لمنع نفسها من الانهيار النفسي بعد اكتئاب ما بعد الولادة الذي حال بينها وبين الكتابة استرجعت شافاق من ذاكرتها الثقافية سير عدد كبير من نساء العالم المبدعات اللواتي وثقن مامررن به في كتاباتهن، رغم عدم اعتراف بعضهن بهذه المطابقة الحرفية.

وفي عتبتها الأولى قبل الزواج استدعت إليف شافاق الكاتبة الفرنسية أناييس نين المولودة في فرنسا 1903، وهي كاتبة تركت عظيم الأثر في الأدب العالمي، وفي حركات المرأة في القرن العشرين.
 
ورغم تأكيد النقاد آنذاك أنّ معظم إن لم تكن كل بطلاتها من الإناث في رواياتها يمثلنها هي شخصياً، غير أنها أنكرت هذا الرأي من صميم قلبها.

ومن أناييس تنتقل شافاق إلى سرد تجارب الزواج والأمومة في حياة صوفيا أندريفنا بيرس، زوجة الروائي الروسي تولستوي، الذي كانت تمثل حياته معها تناقضاً صارخاً بين شخصيتها التي تضج بالحياة وبين تولستوي الذي حولها مع السنوات إلى امرأة في غاية التعاسة.

ولربما كان الأنموذج الأقرب إلى شافاق هي الشاعرة الأمريكية سيلفا بلاث، التي كانت فتاة أرادت أن تكون إلهاً لتتمكن من خلق الكون برمته من نقطة الصفر، وكانت رغبتها تصل إلى هذا الحد حتى تحيا في ألفة حقيقية.

وثمة قصيدة نظمتها بلاث بعنوان "أريد، أريد" بطلها الرئيس طفل يشبه إلهاً لم يوُلد بعد، ولم يكن هذا الطفل بضخامته وصلعته وفمه الفاغر ملائكيا،  ولا جميلاً، بل كان قوة هائلة من قوى الطبيعة، يتمنى المجيء إلى هذا العالم، ويطلب أن يغدق عليه الحب وأن يحظى بالاهتمام ويحصل على الاثنين معاً. إنه طفل يريد أن يحيا.

وتستخدم الشاعرة بركانًا ليكون رمزًا للخصب الأنثوي القدرة على الإنجاب وحمل الحياة داخلها. ورغم مشاعر القلق من الأنوثة والأمومة، والخوف الشديد من الإصابة بالعقم ثم الخشية من آلام المخاض إلا أنّ بلاث كتبت أجمل قصائدها بعد أن أصبحت أماً، ويمثل الأطفال استعارات قوية في قصائدها.

وعندما كانت تتكلم بلاث عن أعمالها التي لم تكتمل فإنها كانت تطلق عليها عبارة "أطفال لم يولدوا بعد". ولم تكن بلاث، كما تصفها شافاق، والدة طفلين اثنين فحسب، وإنَّما كانت والدة آلاف القصائد.

وبسبب عمق رؤية إليف شافاق الكونية لتجارب الكتابة والأمومة والحريم، فإنها لم تقتصر على النسوية الغربية وإنما تناولت كذلك الحركة النسوية اليابانية الذي شكل فيها موضوع غريزة الأمومة الطبيعية والثقافية عنصراً أساسياً، خاصةً في تناولها لنماذج "الجندر" في أعمال بعض الروائيات اليابانيات مثل رواية "طفل الحظ" لليابانية يوكو تسوشيما.

نساء إليف شافاق في هذا السرد الذاتي كثيرات جداً، ومختلفات جدًا ولكن يجمعهن جميعاً سرد تجارب أنوثتهن بكتابات مخترقة، صادرة عن ذواتهن الحقيقية. حكاية إليف شافاق في هذا السرد تبدو متواشجة مع هذه السير جميعها رغم تناقضها، ألم تتحدث شافاق في مقدمة سردها أنها ذوات متعددة وليست ذاتاً واحدة؟ ! "حليب أسود" من أكثر السرود الذاتية مصارحة للذات، خاصةً أنها تتحدث عن ذوات نسوية حيث مساحات البوح تكون دائماً محاصرة حصاراً مجازياً، نحتاج إلى مثل هذه الكتابة المخترقة للذات عند الكاتبات العربيات بعيداً عن مخاوف أوهام المطابقة والرقيب المجازي و"التلصص"!