الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 / 13:16

مستر نون وشبحه

"مستر نون" جديد الروائية نجوى بركات. انتظار طويل عقب روايتها الأخيرة قبل أن تطلع على قرائها بـ"مستر نون" الاسم ليس اعتباطاً فمستر نون يحاكي اسمه، انه في جسمه وفي طبعه وفي شكله.. "مستر نون". اسم نعرف دلالته إذا وضعناه قبالة أخيه الذي يكبره بسبع سنوات وسبعة أشهر. اسم الأخ ساند والاسم موصول كما نرى بالسيادة. وسائد سيد بكل معنى الكلمة. إنه في جسمه وفي طبعه سيد ولقد جعلته الطبيعة سيداً. ليست قامته وشكله فحسب هما هكذا، بل هكذا مزاجه وطبعه. إنه يكبر أخاه بسبع سنوات لكنها سبع سنوات تبعده عنه بقدرها. فسائد السيد لا يكاد ينظر إلى أخيه. إنه يراه دونه بكثير رغم أن أخاه الذي هو "نون" يكاد يتفوق عليه علماً وذكاء لكن نون هو نون وهو يقل عنه بالحجم والحضور، يقل عنه ليس بالنسبة له لكنه أقل وأدنى بالنسبة لأم الاثنين "ثريا" التي لا تقيم وزناً لنون، بل لا تكاد تخاطبه ولا تعطيه اهتماماً. سائد هو بالنسبة لها أرفع من أخيه بدرجات وهي تخاطب الاثنين بلهجتين مختلفتين بل لا تكاد تجمع بينهما في اللغة واللهجة. سائد بالنسبة لها يفوق أخاه بمراحل ورغم أن سائد أدنى من أخيه ذكاء وفهماً إلا أنه عند أمه الأعلى والأرفع. بل هو بالنسبة لها أهم من أخيه بمراحل. نون عند أمه لا شيء وساند عندها كل شيء.


ليست رواية نجوى بركات بهذه البساطة، فإذا كان سائد الفاشل مدرسياً نجح أكثر فأكثر في الحياة والتجارة والمال، فإن نون الذي خسر على الدوام ليس هكذا فحسب. نحن لا نعرف إذا كان نون خسر حقاً وإذا كان سائد ربح حقاً. فمن الصفحة الأولى نعلم أن نون كاتب ويساورنا شك في أن يكون مخترع شخصيته، بل يساورنا شك في أن تكون الرواية كلها من تأليفه وأن تكون شخصياتها هي أيضاً من تأليفه. عدا سائد الذي يبقى شخصية جاهزة، لسنا أكيدين من أي من شخصيات الرواية، بمعنى أننا لسنا أكيدين إذا كانت هذه الشخصيات حقيقية. لسنا أكيدين من أنها جميعها مخترعة ومؤلفة.

لنبدأ بثريا التي هي الأم وهي في الرواية تفضل سائد بل تكاد تعبده. وثريا التي بقيت بعد وفاة زوجها أو انتحاره في مصح، الأمر الذي لا يتناسب مع زهوها ومع إيثارها لابنها الكبير. لا نستطيع بسهولة أن نناظر بين أبهة ثريا وبين الوقت الذي قضته في مصح. كما أننا لا نستطيع بسهولة أن نفهم شخصية زوجها الطبيب المثالي الذي يطبب مجاناً أياماً في الأسبوع. لا نفهم أبداً انتحاره ونظل طوال الوقت في حيرة منه. ثم نحن لا نفهم كيف توفي الأولاد الذين نصح بحقنهم بمخدرات لكي يروقوا، ثم نحن لا نفهم كيف سخر داوود مريم بطلب منها، ثم نحن لا نفهم بسهولة أيضاً كيف تصرف لقمان الأول ولقمان الثاني ولقمان الثالث تصرف القاتل ثم إذا بنا نكتشف أن لقمان ليس سوى هارب وإذا بنون الصغير الضعيف يجهز عليه رغم أن نون هو نفسه حبيس الفندق الذي هو عبارة عن مصح، ونون لا يغادره إلى أن يفاجأ بلقمان يتسلل إليه لنكتشف أن لقمان هذا هو من اختراع نون وتأليفه وهو الذي يقضي عليه.

الرواية تبدأ من نهايتها وتعيدنا نهايتها الى البداية والشخصية نون موجودة في الواقع، بقدر ما هي موجودة في الخيال. ثمة توجّه فانتازي للرواية يجعلنا أمام شخصية هي في ذات الوقت تعيش الرواية وتكتبها وتحياها بقدر ما تؤلفها. هذه الشخصية ذات وجود حقيقي ووجود فانتازي. إنها الظل والحقيقة والرواية والواقع، الرواية ومداها الفانتازي. رواية واحدة أم روايتان أم سلسلة من الروايات من تأليف نون الذي نفهم آخر الأمر أنه ليس إلا رواية وأنه رواية تخرج من رواية لكنها ايضاً واقع يبكي على واقع.