السبت 21 ديسمبر 2019 / 20:59

ترويض المستحيل

لأن أحلامك تسري في دمك، الذي يدفعه قلبك الغض إلى عقلك الذي أجهدته أيام عصيبة لا تريد أن ترحل، ولولا الأمل الذي يحلق أمامك في الشوارع التي تنهبها ليلا، لانتهى كل شيء فيك إلى سكون

من أين لك بهذه القوة، وذلك الصبر العميق؟ جَسور أنت في تفاؤلك، تمضي محمولًا على أجنحته المفرودة من المدى إلى المدى، ومن الوريد إلى الوريد، لأن أحلامك تسري في دمك، الذي يدفعه قلبك الغض إلى عقلك الذي أجهدته أيام عصيبة لا تريد أن ترحل، ولولا الأمل الذي يحلق أمامك في الشوارع التي تنهبها ليلا، لانتهى كل شيء فيك إلى سكون، فاتحا ذراعيه للنهاية التي تبتلع كل أحد.

لم أرك يوما تقول شيئًا عن السماء البعيدة، ولا تثرثر حول أولئك الذين ينحنون ركوعاً، ويخرون سجودا، لكنني دوما أرى الله في عينيك، وفي كل شيء فيك ومعك وبك، وقت أن تطرق صامتا حين يسألك أحد عما سيأتي، فليس بوسع هذا أو ذاك أن يتفاءل إلا إذا كان يعرف قدر الله، أو طاله وعى بتاريخ البشر جيدا، ولأنني أعلم أنك لم تقرأ سوى سطور قلائل في كتب التاريخ، فأنا أؤمن أنك موصول بمن وراء كل سر دفين، فهو جلَّ في علاه الذي يجعلك هكذا، تبتسم في أيام الشدة، وتلهو بانتظار المستحيل، ولا تقدر الدنيا التي تتخبط حولك على دفعك إلى رفع الراية البيضاء.

لا أكون معك في خلائك، وأنت تمضي وحيداً في الشوارع، أو تجلس على المقهى تحتسي الشاي الذي تعشقه، وتحل في رشفاته المتلاحقة مشاكل العالم البغيض، أو تحملق في سقف حجرتك قبل أن تخلد إلى النوم ناسيًا ما عليك حيال أهلك الأقربين لحساب سكان مكان واسع مساحته مليون كيلومتر مربع، لكنه يضيق حين تستحضره في لحظات الصفاء ليس عن ضعة، إنما عن طاعة لك كي يكون في مستوى ناظريك، ماثلا لك لتحرسه، وتهش عنه البعوض والذباب والكلاب المسعورة والذئاب والأفاعي وكل الضواري.

طالما راهنك المتعجلون، وقالوا لك في ثقة:
ـ لن يتغير شيء.
ترفع وجهك إليهم غارقا في صمتك، ثم تنظر إلى الأرض، وتتركهم يرون ما ترى. كل شيء يؤول إلى هذا التراب. تلك حكمتك الأخيرة. لن يبقى شيء، ولا أحد، مع أنك تؤمن أن هذه الحياة فيها آحاد كثر وأشياء كثيرة، وأن بوسعهم أن يفعلوا الكثير قبل أن يغمضوا عيونهم ولا يرون إلا التراب.

أقول لك ونحن ندب في الشوارع في المساءات المتلاحقة، بعد أن أجهدني الكلام، وأجهدك صمتك:
ـ الليل يشتد والنهار بعيد.
لا تتوقف خطاك لتفكر فيما سمعت، فالإجابة لديك حاضرة على طرف ضميرك الذي لا ينام، فأراك تقول:
ـ نهار هناك قادم.
ارفع وجهي في المساحات المحصورة بين البنايات الشاهقة، وتلك الأوسع التي تحط فوق النهر وما علي جانبيه من رصيفين خجولين تحت ستائر الظلام الكثيف، لأرى النهار يبزع، لكن الليل يجثم، ويقبض على الفضاء المخنوق، وتغور النجوم في قلب الرماد البعيد، فأقول لك:
ـ لا يزال النهار بعيدا.
تدع الهواء الخفيف يداعب شعرك الهائج الذي لا يموج، وتقول بصوت خفيض، لا أكاد أسمعه:
ـ أراه يقترب.
أرفع وجهي فإذا ليس أمامي سوى ليل في ليل، لكنني أرى معك النهار. وأقول في ثقة، كما تقول:
ـ إنه آت.
لتعلم يا صديقي إن قولي ليس عن ثقة فيما أسمعه منك، ولا عن قراءة في تواريخ لم تحصها عددا، إنما لأني أرى الله يسكن الوقت، بل هو الوقت، فالزمن لا غالب له، لا شيء يعبره، ولا أحد يضارعه، وما من إنسان شاده إلا ارتد خاسرا ومسروقا، فالأعمار أكثر وأهم ما يسرق منا، إنها السرقة الوحيدة التي ليس بوسع إي إنسان دب على الأرض أن يستردها، ولا يمكنه أن يبلغ عنها من يسجلها جريمة، لأن الكل في هذا سيان، من يحكي، ومن يسمع.

يا أيها الذي لا ترى سوى الأمل، افتح لي معك المدى، لا تتركه محصورا فوق النهر وشاطئيه ورصيفيه اللذين يمتدان أمام أقدام العابرين المتعبين، الذين رضوا بما جرى ووقع ولا تلوح لهم في أي أفق بادرة من اختلاف، بل اخمشه بأظافرك التي تربيها ليوم الزحف الأكبر، الذي جاء وذهب، وتنتظره من جديد دون قنوط،  كي يفرد ذراعيه ويحتضن كل ما لا يراه الناس، وما يعتقدون أن وجوده من تاسع المستحيلات.

وقتها فقط بوسعك أن تأتي بالمدى إلى الميدان، وتجلس في وسط المحتشدين حولك، تحدثهم عن نبوءاتك التي لم تنهزم، لكن عليك وقتها أن تكون يقظاً جيداً للوقت، حتى لا يمضي وأنت فرحاً بالحكي، بينما هناك من يسرق أحلامك من جديد.