الرئيس الفلسطيني محمود عباس مترئساً اجتماعاً  للقيادة الفلسطينية.(أرشيف)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس مترئساً اجتماعاً للقيادة الفلسطينية.(أرشيف)
الخميس 26 ديسمبر 2019 / 19:44

تبديد الوقت وسياسة التجزئة

في تصور أكثر شمولاً تدفع السلطة الثمن المزدوج لتحييد منظمة التحرير وإضعافها وموقفها السلبي من شبكة العمل الأهلي

تدفع السلطة الفلسطينية ثمن تبديد الوقت وسياسة التجزئة التي مارستها خلال الفترة التي رافقت تأسيسها وشعارات بناء مؤسسات الدولة، تدفع فواتير متراكمة كثيرة تجمعت في أكثر من مجال، وهي النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تنشأ عن غياب استراتيجية يمكن الاعتداد بها.

الحقيقة المؤلمة أنها فقدت هويتها ومشيتها في عملية الإرضاء الطويلة والمهادنة مع تيارات وبنى اجتماعية وأفكار عززتها ثلاثة عقود من سياسات الاحتلال ورعتها بقوة وطورت تخلفها عبر هيكلية وأساليب عمل مدروسة من خلال ما عرف بـ"الإدارة المدنية"، وهي التعبير المدني للإدارة العسكرية التي تحكمت بشؤون الضفة الغربية وقطاع غزة، وحرصت عبر سياسات وأساليب مدروسة على دفع العلاقات الاجتماعية إلى الوراء من خلال تعزيز البنى العشائرية وتكريس الأفكار الأكثر تخلفاً في الوعي الاجتماعي، في تراتبية تبدأ من نفوذ وممثلي العائلات الكبيرة وشيوخ العشائر وصولاً إلى "مختار" أصغر قرية أو "حمولة"، ومنحتها سلطات وصلاحيات منتقاة تتحكم بالحاجات المعيشية للناس وتمس حياتهم اليومية، سلطات ليست أكثر من توصيات وتأشيرات وتلقي الرسوم التي تتداخل مع الأتاوات، تبدأ من "تصريح" السفر وإصدار الهوية وشهادة الميلاد وتصل إلى تصريح العمل في أحيان كثيرة، مهمات تمنح هذه الشرائح سطوة ونفوذاً باسم التقاليد التي تشمل تحكمها في حياة الناس وتوجيه سلوكهم وتقييمه، ولكنها في نفس الوقت لم تكن أكثر من قناع فولكوري للحكم العسكري، ومنطقة عمل لأجهزة الاحتلال الأمنية من شرطة ومخابرات، وأقرب الى الدفيئة التي يمكن عبرها تربية وانضاج شبكة عميقة من العملاء، بمراتب متفاوتة.

كان على منظمة التحرير أن تتسلم هذه المهمات من "الإدارة المدنية" بما فيها هيكلية تضم عدة آلاف من الموظفين الذين خدموا في دوائرها، وكان عليها، دون تردد، أن تبني مؤسساتها بروح مختلفة تماماً ومتناقضة مع "عقيدة" الإدارة المدنية والغايات الكامنة خلف "الخدمات" التي تقدمها، أن تنقل الصلاحيات والأختام من أدراج المخاتير وممثلي العائلات إلى "المؤسسة" الناشئة، عبر ائتلاف مع مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في فلسطين والتي استطاعت أن تؤسس بنية تحتية لبناء مؤسسات الدولة في أكثر من قطاع في مواجهة "مؤسسة الاحتلال".

لقد استطاع المجتمع المدني في فلسطين وعبر سنوات طويلة من الكفاح الحقيقي والعمل الميداني، بناء شبكة من المؤسسات الفاعلة ذات التأثير في مواجهة "الإدارة المدنية" وسياسات الاحتلال والحكم العسكري، وأن تطور أداء شبكتها وتراكم خبراتها، بحيث استطاعت أن تخوض تجربة "الانتفاضة الأولى" وتتحول إلى منطقة دعم حقيقية مرنة وذكية ومتحركة، وأن تبتكر أساليبها من الواقع نفسه، وعبر إشراك مجتمعها في مناطق العمل بحيث تجاوزت في تجمعات كثيرة فكرة الحواضن نحو الشراكة الكاملة، والانطلاق من نسيج مجتمعها وليس الهبوط عليه بمظلات، وهو ما منح الانتفاضة القدرة على الاستمرارية والصمود ومنح الناس الثقة في امكانية دحر الاحتلال وهزيمته وعزل "الإدارة المدنية" وتفكيكها بوسائلهم وامكانياتهم.

لم تفعل السلطة الجديدة ذلك، لم تذهب نحو مناطق العمل الشعبية حيث تراكم المنجز الوطني، لم تكمل عمل المجتمع المدني ولم تستثمر هناك، حاولت ضمن تصور ضيق وساذج بناء مؤسستها بما ينسجم مع فكرة "النظام"، وبدا أنها تركت جانباً منجزها المتمثل في القيم والمبادئ التي حملتها "وثيقة الاستقلال" عبر إضافة مصادر أخرى للقانون، وبدا أن إرث "منظمة التحرير" بأفقه الواسع وانفتاحه على تجارب الشعوب بدأ يشكل عبئاً على سياسة المهادنة والتصالح والارضاء التي انتهجتها لتبني نفوذها، مساومة عززت حضور القوى الأكثر تخلفاً في المجتمع بما فيها تلك التي تمتعت بامتيازات الإدارة المدنية.

كانت منظمة التحرير أولى ضحايا هذه السياسة فيما توسعت الفجوة بين مؤسسات المجتمع المدني والسلطة الجديدة، التي وجدت بعض اطراف السلطة أنها تشكل خطراً على نفوذها.

في تصور أكثر شمولاً تدفع السلطة الثمن المزدوج لتحييد منظمة التحرير وإضعافها وموقفها السلبي من شبكة العمل الأهلي.

ما استحضر هذه التداعيات هو الجدل القائم في فلسطين الآن حول "اتفاقية سيداو" الداعية إلى حماية وضمان حقوق المرأة، (وقعت عليها السلطة دون تحفظ في العام 2014)، و"بيان العشائر" الذي اتسم بإصدار التعليمات الفجة للسلطة، وتحديد عملها بما فيها إغلاق كافة المؤسسات النسوية في فلسطين والانسحاب من الاتفاقية، يمكن أن نضيف إلى أسباب الاستحضار الرد الباهت من مجلس الوزراء الفلسطيني على هذا الجدل وعلى التهديد، والذي يحاول التذاكي في عملية إرضاء محزنة ومثيرة للشفقة، والذي يستكمل سياسة الارضاء البائسة ويتسبب بالضرر الشديد لمكتسبات المجتمع الأهلي في فلسطين.