الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الأحد 12 يناير 2020 / 19:18

آخر تجليات الصراع في ليبيا وعليها

الصراع في ليبيا وعليها يتجلى اليوم كأحد أهم الصراعات الكبرى التي يخوضها الإسلام السياسي، وميليشياته الجوّاله، وحلفاؤه في الإقليم، لإيجاد موطئ قدم في شمال أفريقيا

ثمة ثلاثة أحداث تبدو متفرّقة، للوهلة الأولى، ولكنها وثيقة الصلة بالصراع في ليبيا وعليها. يتمثل الحدث الأوّل في تصويت البرلمان التركي على إرسال قوّات إلى ليبيا، والثاني في احتدام المعارك في ليبيا، ونجاح الجيش الوطني الليبي في السيطرة على مدينة سرت، والثالث عدم منح الثقة في البرلمان التونسي لحكومة تدعمها حركة النهضة، ولقاء زعيم الحركة المعنية بأردوغان خلال زيارة خاطفة لتركيا.

الدلالة المباشرة للحدث الأوّل إضفاء شرعية على إرسال قوّات عسكرية نظامية إلى ليبيا، بمعنى أن الطموحات السلطانية لتركيا الأردوغانية تمتد آلاف الكيلومترات بعيداً عن مصالح الأمن القومي للدولة التركية التي تفرضها ضرورات وإكراهات الجغرافيا السياسية.

وعلى الرغم من حقيقة أن مسوّغات التدخل العسكري التركي تستعين بضرورات ومصالح اقتصادية كالنفط والغاز شرقي المتوسط، وبأعداد كبيرة لمصالح تجارية ومؤسسات تركية في ليبيا، إلا أن الكلام عن وجود ليبيين من أصول تركية، وعن صلات تاريخية بين ليبيا وتركيا، لم يتأخر كثيراً. وفي السياق نفسه فإن ما لا يُقال، أي ما يصمت عنه الخطاب المُعلن لتركيا الأردوغانية، يمثل مفتاحاً أساسياً لتحليل دوافع التدخل.

فحكومة الوفاق، التي تسيطر على العاصمة الليبية تضم خليطاً من الإسلاميين، وبعض هؤلاء مدرج على قوائم الإرهاب العالمية. وهؤلاء هم حصان طروادة في ليبيا، وحلفاء أردوغان في مشروع التمدد السلطاني في شمال أفريقيا، التي تبعد عن تركيا آلاف الكيلومترات. لذا، لا ينبغي إسقاط مسألة التحالف بين تركيا الأردوغانية وجماعات الإسلام السياسي الليبية من كل تحليل محتمل للصراع في ليبيا وعليها. فنجاح الأتراك في تثبيت وضع حلفائهم في ليبيا، والحيلولة دون سقوطهم، ما يعني أنهم نجحوا في إنشاء موطئ قدم للتمدد في شمال أفريقيا.

والملاحظ، وهذه مسالة تستحق الاهتمام أن طلائع التدخل التركي تتمثل في ميليشيات سورية حليفة. وفي سياق كهذا تُعيد تركيا الأردوغانية سيرة إيران التي أنشأت أكثر من ميليشيا مسلّحة في المنطقة، ووظفتها في توسيع وحماية مصالحها القومية. والدلالة الأخطر لأمر كهذا هي تفشي ظاهرة الميليشيات الجوّالة، والقوى غير النظامية التي يمكن نقلها من مكان إلى آخر لزعزعة الأمن، والعمل كوكيل لقوّة إقليمية.

وعلى خلفية كهذه يمكن فهم وتفسير احتدام المعارك في ليبيا، ونجاح الجيش الوطني الليبي في السيطرة على مدينة سرت، وهي المدينة التي تمثل، ضمن عدد آخر من النقاط الاستراتيجية، موطئ قدم يحتاجه الأتراك للنزول بقوّات نظامية وغير نظامية، وإرسال معدّات وتجهيزات عسكرية لنجدة حلفائهم، وتثبيت أقدامهم حتى ولو كان الثمن تقسيم وتقاسم ليبيا. وبهذا المعنى، تتجلى السيطرة على مدينة سرت تتجلى كمكسب استراتيجي انتُزع من قبضة أردوغان وحلفائه في الصراع على ليبيا.

وإذا كان أردوغان هو الذي يرسم الخطوط العامة للسياسة الخارجية، فإن بلورة التدخل العسكري هي من شأن الجنرالات في الجيش التركي، ومن الواضح أن هؤلاء قد أدركوا أهمية نقاط الارتكاز في ليبيا نفسها وفي بلدان الجوار، التي يمكن الاعتماد عليها في نزول ونقل الجنود والعتاد. وفي سياق كهذا جاءت زيارة أردوغان لتونس. ومن الواضح، وبقدر ما تجلى من تسريبات، أنه مارس ضغوطاً اقتصادية وسياسية لإنشاء نقاط ارتكاز خلفية للحشد والإمداد والتدخل العسكري.

وفي هذا السياق، أيضاً، تتموضع زيارة رئيس حركة النهضة، الغنوشي، لتركيا في الأيام القليلة الماضية، بعد ظهور ممانعة قوية في الشارع التونسي لتوريط البلاد في الصراع على ليبيا، وتحويلها إلى نقطة ارتكاز خلفية ومعبر للتدخل العسكري التركي.

فمن الواضح بعد فشل رئيس الحكومة المكلّف، والمدعوم من حركة النهضة، في الحصول على ثقة البرلمان، وبعدما تجلّت ردود فعل شعبية، ومن جانب أحزاب وقوى فاعلة، ضد توريط البلاد في الصراع على ليبيا، وبعد صدور تصريحات من الرئاسة بهذا الخصوص، أن قوى الإسلام السياسي التونسي، الممثلة في حركة النهضة، تجابه مأزقاً وتسعى للإفلات منه.

فهي حليفة لأردوغان من ناحية، ولكنها تخشى فقدان الكثير من أنصارها، إذا أيدت التدخل التركي بطريقة مكشوفة، من ناحية ثانية. ولم يكن من قبيل المصادفة ظهور دعوات من جانب معارضين وساسة تونسيين لسحب الثقة من الغنوشي، الذي يشغل منصب رئيس البرلمان، بعد زيارته لإردوغان.

والخلاصة أن التدخل العسكري التركي في ليبيا يجابه عقبات جدية تتعلّق بنقاط الارتكاز المحلية، وفي دول الجوار. وهذا، طبعاً، إذا استثنينا حقيقة أن مصر، وقوى فاعلة كثيرة، ترى في التمدد التركي في شمال أفريقيا تهديداً لأمنها القومي. وعلاوة عليه، فإن الصراع في ليبيا وعليها يتجلى اليوم كأحد أهم الصراعات الكبرى التي يخوضها الإسلام السياسي، وميليشياته الجوّاله، وحلفاؤه في الإقليم، لإيجاد موطئ قدم في شمال أفريقيا. وفي هذا ما يُفسّر حدته، ودلالته الإقليمية والدولية، وحجم الرهانات عليه من جانب قوى متناقضة المصالح والأهداف.