السبت 18 يناير 2020 / 20:37

الوليُّ والدعيُّ

كيف تتحدث عن الله وبندقيتك لا تكف عن القتل؟ وكيف تستقيم الولاية عندك مع الخداع أيمكن للاثنين الالتقاء إلا في مخيلة مريضة، وذهن معتل؟!

يا من تدعي أنك ولي الله أو وكيله، لتعلم أنها لا تؤتي لكذوب قاتل. ألم تسأل نفسك ذات يوم كيف تجتمع الولاية مع النهم والدم؟ طريقان مفترقان هما لو كنت تعرف، فلا البحر بوسعه أن يكون معبراً للسائرين على أقدامهم، ولا الرمل يصلح لتبحر فيه السفن، إلا من أتاه الله من الخوارق أعجبها، ومن الأسرار أغربها، وكثرة الكثير منهم نسمع عنهم، ولم نرهم.
يا أيها المتطرف، يا صاحب العقل المنغلق، لقد جعلت الكلام محرماً ومجرماً إلا ما تنطق به، وكأنك تأتي بما لم يصل إليه الأوائل. والذين جعلوك أميرهم وصاروا أتباعك لم يعد بوسعهم أن يتغاضوا عن إعجابك بنفسك، لأنهم يدركون أن الوليَّ لا يعجبه شيء على هذه الأرض إلا الصالحات، وأن كل ما يأخذ الناس إليه هو عنده آخر ما يشغله، ليس احتقارًا لأحد، لكن ترفعًا عما يبهر الأغلبية، وأغلب الناس لا يعلمون.

الوليُّ هو هذا الذي لا يتيه بما يلقى في رأسه، فقد يكون مساً من الشيطان، ولا يبني كل ما يفعل على ما جاءه وهو في الموت الأصغر أو أحلام اليقظة العابرة، إنما هو ذلك الذي يسأل نفسه ويسائلها طيلة الوقت، ولا يدعها تغفل عنه، ولا تهجره، حتى لو وضعوا الشمس في يمينه، والقمر في يساره، وهو لا ينطق إلا خيراً، ولا يفعل إلا ما ينفع الناس.

كيف تتحدث عن الله وبندقيتك لا تكف عن القتل؟ وكيف تستقيم الولاية عندك مع الخداع؟! أيمكن للاثنين الالتقاء إلا في مخيلة مريضة، وذهن معتل، وعلى أوراق اختلط فيها الحق بالباطل، والباطل بالحق، فلم يعد، إلا الخاصة، يفرقون بين هذا وذاك، وعليهم أن يجتهدوا ويجاهدوا في سبيل بلوغ الحقيقة، بعد أن طمر فساد وغواية واستباحة كل شيء.

الولاية لا يؤتاها طامع أو حاسد أو حاقد أو جاهل أو من يحمل في نفسه ضغائن معتقة يربيها طيلة زمن بعيد منتظراً الوقت الذي يحولها فيها إلى سيف انتقام يقطع به رؤوس كل الذين يُراد النيل منهم حتى لو كانوا صالحين أو محقين أو لم يقصدوا ما جعلهم موضع مطاردة.

إن لم تكن قد قرأت سير الصالحين فعليك أن تنظر بإمعان في عيون كل الذين حولك. وقتها سترى أنه ليس لك بينهم تابع واحد إلا خوفاً، فالمريدون لا تدفعهم جيوبهم إنما قلوبهم، ولا تخدعهم الكلمات الناعمة، ولا يشغلهم التصفيق لأحد مهما كان فصيح بيانه، الذي قد ينم عن عظيم جنانه، ولا يُجبرون على الطاعة العمياء لإرهابي أعمى، لمجرد أنه كبيرهم.

الولي هو المشغول بالمعنى، ولا يقف عند الصورة، لاسيما إن كانت ملونة، هو من يسكن بين البياض والسواد ناصباً خيمته في الرماد، ليس حباً فيه، لكن لأنه يدرك أن في هذه المساحة يسكن أغلب من عليه أن يدعوهم إلى الهداية، ولا يكف عن دعوتهم إنما يأخذ بأيديهم فينهضوا معه إلى حيث يجب أن يذهبوا، وفي أخذهم هذا هو لا يزعم قيادة ولا ريادة إنما يمشي في الصف، بل لا يؤمن بصف أصلًا، لأن الأصل أن يمضي الناس أحرارًا، كل يسرع أو يبطئ، يتمهل أو يتعجل، وفق مشيئته الإنسانية ورغبته وقدرته.

الوليُّ هو الذي يدرك ما تريده اللحظة، والذي يضبط نبضه على أشواق الناس إلى الحرية والعدل، لأنه يدرك أن غيابهما يؤدي إلى شروخ في الروح، والروح المشروخة لا يمكنها أن تهيم في الحضرة البهية على قدر ما تستوجب من تبتل وذوبان وغياب ومحو.

والولي يدرك أن من يهرب من الحرية والعدل فيمن يكون بين يدي شيخه ليس بوسعه أن يمضي في طريقة الله كاملًا، ولهذا فإنه يحرص على انعتاق مريديه من هموم الدنيا، وهو ما لا يمكن أن يتحقق حين تكون الحضرة مجرد مكان مؤقت للهروب من الاصطفاف مع أولئك الذين يكافحون في سبيل أن تبقى الحياة أكثر إنسانية.

الوليُّ لا يهزأ ولا يخطف ما ليس له، ولا يقرب منه السفهاء والجهلاء وعابري الدروب والآكلين على كل الموائد ومحترفي القتل، فمائدة الولي لا يدخل طعامها إلا إلى جوف الطيبين الصابرين، الذين يأكلون ليعيشوا ولا يعيشون ليأكلوا، وحضرة الولي لا يمكن أن تخضبها الدماء.

فما ذا الذي بوسعه أن يزعم ولاية ليست له، ويرمي ما يجعل الغافلين والضائعين وقليلي الحيلة والسفهاء يعولون عليه، أو يؤمنون به، إنه لا محالة مكشوف مفضوح، عالة على الأولياء، الذين طالما نبهونا إلى الأدعياء الذين يتطفلون على الطريق، قادمين إلينا من رحم المصادفة العمياء الخرساء، أو من آبار الخيانة، وصفحات الكتب القديمة السوداء، يلقون في طريقنا كلامًا معسولًا كي يصير وحلًا يعيق السير، ويأكل الجهد، ويجعل الوصول إلى أهل الطريق صعبًا.

أيها الإرهابي الدعي، يا من ألقيت كلمات متباعدة إلى الغافلين لتسكرهم أو ترعبهم، ما نطقت به كشفه الأولياء الحقيقيون، قالوه في ملأ لن تبلغه، وهو من سيبلغ من تظن أن آذانهم قد استسلمت لك، فإياك أنت يا من تظن أن بوسعك إيذاءهم، بعد أن مددت يدك المغلولة لتبطش، وأطلقت لسانك الصموت ليتوعد بلا انقطاع.