وسط بيروت تحول ساحة معركة (أف ب)
وسط بيروت تحول ساحة معركة (أف ب)
الأحد 19 يناير 2020 / 20:16

سلطة مسيّلة للدموع!

حراس الساحات والجسور انقلبوا على مبادئهم مرغمين أمام سلطة تماسيح صمت آذانها عن مطالبهم منذ أكثر من تسعين يوماً ونأت بنفسها عن عذابات شعب يعاني منذ ثلاثة أِشهر ما لم يختبره في ذروة الحرب الأهلية

وفي الشهر الرابع، طفح الكيل في شوارع بيروت... الثورة التي جذبت انتباه العالم بسلميتها ورقيّها وشعارها "كلن يعني كلن"، تحولت عنفاً وشغباً. الأعلام التي كانت توزع في الساحات صارت عصياً وحجاراً والهتافات والأناشيد صارت شتائم والرقص صار تكسيراً وتخريباً.

ولكن رغم كثافتها، لم تحجب القنابل الدخانية التي أمرت بها سلطة مسيّلة للدموع ضد شعبها، حقيقة راسخة في المشهد اللبناني الجديد. ثورة 17 تشرين الأول لا تزال هي هي. مطالبها نفسها وأهدافها نفسها. مندسّون هنا ومشاغبون هناك لن يغيروا اتجاه البوصلة. ما تغير هو نفاد صبر الثوار ومعهم الغالبية العظمى من اللبنانيين، في تحمل مماطلة السلطة وتسويفها على حساب لقمة عيش الناس وكراماتها التي تذل يومياً في المصارف والمؤسسات والشوارع.

لم يلجأ الثوار إلى الشغب لأنهم هواة عنف. حراس الساحات والجسور انقلبوا على مبادئهم مرغمين أمام سلطة تماسيح صمت آذانها عن مطالبهم منذ أكثر من تسعين يوماً ونأت بنفسها عن عذابات شعب يعاني منذ ثلاثة أِشهر ما لم يختبره في ذروة الحرب الاهلية.

كشفت الازمة السياسية الاخيرة في لبنان سلطة منفصمة تماماً عن الواقع. سلطة تعيش حالاً من الإنكار لا مثيل لها في العالم. صحافي اسباني قال لي مندهشاً إنه بعد 32 سنة من العمل الميداني في وسائل اعلام عالمية، لم يمر عليه شيء مشابه لما يحصل: "السياسيون في لبنان لا يسمعون. هم يتحدثون فقط، ويتصرفون على أساس أن الناس تصدقهم".

منذ ثلاثة أشهر تتوالى المؤشرات المالية والاقتصادية الخطيرة، وترتفع أصوات ذات صدقية، محذرة من انهيار بات وشيكاً. ومع ذلك، تواصل الأحزاب السياسية ممارساتها القديمة بمحاولة نهش ما يمكن نهشه من دولة صارت أشبه بجثة. وحتى التشكيلة الحكومية التي اقترحها الرئيس المكلف حسان دياب تواجه مخاضاً عسيراً مع أنها من لون واحد.

على رغم كل المؤشرات المالية والاقتصادية التي تنذر بانهيار قريب، يعجز أهل السلطة عن تأليف حكومة من لون واحد، ويضع أركان الفريق الواحد العراقيل العقبات بعضهم أمام بعض، فتارة يصر رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على ثلث معطل في حكومة يفترض أنها موالية له، وتارة تطل شخصيات تكاد لا تمثل الا نفسها، مطالبة بحصة في الحكومة.

أمام طبقة سياسية لم تتعلم شيئاً من دروس الماضي، ولم تستغل سلمية الانتفاضة لملاقاة شعبها في مطالبه بالتغيير ونفض عفن الماضي، كان بديهياً أن تتخلى الثورة عن سليمتها وتتبنى عنفاً مهد له سلوك السلطة أصلاً.
الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة جون أف كينيدي قال يوماً إن "من يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنيفة حتمية". ولا شك في أن حكام لبنان يتحملون هم دون سواهم مسؤولية الإصابات التي سقطت والخراب الذي يتباكون عليه. فهم وحدهم من جعلوا الثورة السلمية مستحيلة وجعلوا العنف حتمياً. وربما هم ينتظرون الدماء حتى تسيل في بيروت لينتقلوا إلى المرحلة التالية في الانقضاض على الثورة!.