ناديا لطفي.(أرشيف)
ناديا لطفي.(أرشيف)
الجمعة 7 فبراير 2020 / 18:00

"البندقية الشقراء" لم تمت!

ومع عشقها لوسطها الفني والاجتماعي، شعرت وربما مبكراً باحتقارها أو كراهيتها لبعض من دخل لهذا الوسط وتحديداً في العقدين الاخيرين حيث أصبحت "الهمبكة" و "التهريج" في الأغاني أو السينما أو المسرح هي الغالبة

"إذا كان الفن شكل من أشكال الإبداع فإن النضال بالفن هو قمة الإبداع"، تتراجع قيمة الفن في الحياة العامة للشعوب وبخاصة العالم الثالث وتحديداً عالمنا العربي الذي بات رهينة لأنماط معينة من الإسفاف والتهريج والتغريب بل والضياع باسم الفن والإبداع.

"البندقية الشقراء"، وهو اللقب الذي يناسب الفنانة ناديا لطفي والذي كنت أصفها به منذ كنت طالباً في عامي الأول على مقعد الدراسة الجامعية 1982 بعد ذهابها إلى الحصار في بيروت والتحاقها بالشهيد ياسر عرفات ورفاقه من الأبطال المقاتلين الذين صمدوا صموداً أسطورياً في وجه آلة القتل الإسرائيلية بقيادة الإرهابي أرييل شارون.

ناديا لطفي لم تقم بتلك الرحلة الخطرة من باب "الاستعراض" أو "المزايدة" أو محاولة الاختلاف والتميز في وقت لم تكن فيه فضائيات تضخم الأحداث أو وسائل تواصل اجتماعي تخترع "الأكاذيب" أو تساهم في نشرها أو تصنع "الشعبوية".

"البندقية الشقراء" قامت بذلك تحت تأثير قناعة تامة وإيمان بأن فلسطين تستحق التضحية، وقناعة "بولا شفيق" هي انعكاس لضمير حي يرى أن فلسطين المسلوبة من العصابات الصهيونية وصمة عار في جبين الإنسانية ويجب أن يعاد الاعتبار لعدالتها.

قبل بيروت وحصارها كانت ناديا لطفي ملتصقة بوطنها المصري العظيم، حيث شاركت في معالجة وتضميد جرحى حرب يونيو (حزيران) عام 1967 وفي حرب أكتوبر المجيدة كانت تضمد الجرحى في الميدان وفي المستشفيات وهي في قمة مجدها كفنانة جميلة وساحرة لم تكن بحاجة لا للشهرة ولا للمال ولا للجاه. تسببت لها زيارة بيروت عام 1982 عندما قررت كسر الحصار عن المقاومة الفلسطينية في بيروت، بمضايقات كثيرة لم تكن بحاجة لها لا داخل مصر ولا خارجها، ولكنها ازدادت صلابة وقناعة في الدفاع عن القضايا العادلة وتحديداً القضية الفلسطينية.

فاتنة "أبي فوق الشجرة" مؤمنة بان الفنان هو إنسان معطاء وله مسؤولية أخلاقية ومجتمعية كبيرة، ولا أريد أن اقتبس ما قالته عن وقوفها إلى جانب زملائها من الفنانيين الذين ضاقت بهم الدنيا، فقد اعتبرت أن الفنان الحقيقي هو إنسان بالدرجة الأولى يشعر بغيره ويقف إلى جانبه، والفن هو باختصار ووفق عقيدة ناديا لطفي عطاء وابداع، ولا يستقيم مع هذه العقيدة البحث عن الثروة والشهرة بدون أن يكون لهما ضريبة أخلاقية تتمثل في دعم من جار عليه الزمن من زملائها أو أصدقائها.

ومع عشقها لوسطها الفني والاجتماعي، شعرت وربما مبكراً باحتقارها أو كراهيتها لبعض من دخل لهذا الوسط وتحديداً في العقدين الاخيرين حيث أصبحت "الهمبكة" و "التهريج" في الأغاني أو السينما أو المسرح هي الغالبة بل والمسيطرة. ولذا قررت اعتزال هذا العالم من باب "رفضها" ان تكون جزءاً من عالم لم يعد لها، ولربما لغيرها. وقالت في تبرير اعتزالها: "لم أعتزل الفن، اعتزلت العفن... هذه ليست السينما التي أعرفها. دخلتها أشكال لا أعرفها ولا أفهمها، أنا لا أستطيع أن أوقع عقداً على سيناريو مسموم، فالجمهور بالنسبة إلي أمانة في ما يتعلق بما أقدمه له؟ أبسط الأشياء أن أمتنع عن تداول المواد السامة، لأن الفنان الذي يفعل ذلك يقتل الروح والفكر والأمانة ويعطي جمهوره مفتاح الانحراف والسقوط".

عانقت الفن والإبداع واحتمت بهما عندما غدرها الزمن وخانها جمالها. لم تلجأ إلى خداع ذاتها وخداع جمهورها وحسب تعبيرها (بالشد والنفخ) وعمليات التجميل، ونجحت في إلصاق صورتها الجميلة في مخيلة وأذهان وذاكرة الملايين تلك الرائعة الجميلة الشقراء (عرق الريحان الندي) الذي يصلح لأن يكون في كل بيت بخضرته ورائحته العطرة والذكية.