الباحث والمفكر فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ (أرشيف)
الباحث والمفكر فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ (أرشيف)
الأربعاء 12 فبراير 2020 / 19:37

العولمة والليبراليون الجدد

بعد سقوط حائط برلين 1989، وتفكك الاتحاد السوفيتي، أعلن فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ، فالعدو المشترك لأمريكا والغرب، سقط سقوطاً مدوياً لا لبس فيه، ونهاية التاريخ بشكل ما، هي تهنئة للنيوليبرالية الريغانية والتاتشرية. انتهت المواجهة بين قوة عظمى ديمقراطية ليبرالية، وبين منافسها الشيوعي الشمولي.

المشكلة التي لم يعترف بها الماركسيون والليبراليون، أن المعركة الصفرية بينهما، هدمتْ توازن القوى، وهو توازن كان يحفظ عدم الجموح في كل شيء

عزز فوز أمريكا والغرب في الحرب الباردة، الرؤية المتفائلة الليبرالية، بإمكانيات التقدم الإنساني.

الاقتصاد الرأسمالي يمكن له التقدم في كل الدول التي تضمن الحرية الفردية. اتساع النظام القائم على ليبرالية سياسية اقتصادية، ليشمل بقية الكوكب. هذا ما تعنيه نهاية التاريخ، عالمية الديمقراطية الغربية الليبرالية كشكل نهائي للحكم.

الحقيقة أن فكرة التقدم الإنساني، وهي فكرة مُتَنَازع عليها بين الليبراليين والماركسيين، مع اختلاف الكلمات في التعبير عنها. فالماركسية قبل سقوطها كانت تدعو إلى ديكتاتورية البروليتاريا، وهي السيطرة السياسية، والاقتصادية للطبقة العاملة على وسائل الإنتاج، وهذا التقدم الإنساني، لم يحدث على أرض الواقع، وأُدرج منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، في أدبيات اليوتوبيا.

أما الليبرالية، فلم تجد صعوبة، بعد الحرب الباردة، وبعد الفوز المدوي، في تعميم قيم الحرية الفردية، والمساواة، والديموقراطية، والسوق الحرة، والوعود الواسعة بالرفاهية والسلام لجميع دول العالَم. أممية أخيرة، محطة هادئة، يتوقف عندها قطار التاريخ إلى الأبد.

عملت نبوءة نهاية التاريخ، بكفاءة من 1990 إلى 2000. الشركات العابرة للقوميات تغلغلت في جميع الدول، ورؤوس الأموال تحركت بحرية، وتدفقت السلع العابرة للتعريفات الجمركية، ومنظمات المجتمع المدني طالت كل ركن من أركان العالَم، وكرست الدول إمكاناتها للعولمة الاقتصادية، والديمقراطيات طغت على القوانين في البلاد الغنية والفقيرة معاً.

وفجأة، وعلى غير توقع، عاد التاريخ مرة أخرى، بقوة لا مثيل لها، في أحداث 11 سبتمبر(أيلول) 2001 الإرهابية.

وبهذا صمدت مقولة نهاية التاريخ، لفرانسيس فوكوياما، إحدى عشرة عاماً فقط. أعلنت أمريكا الحرب على الإرهاب، وحرب أفغانستان، والعراق. انهالت علينا تأكيدات التاريخ بعودته، ولم تنته إلى الآن 2020.

الأزمة المالية في 2008، والحروب الأهلية في سوريا، وليبيا، واليمن، والهجرات الكثيفة إلى دول الغرب، وصعود اليمين الشعبوي في أمريكا والغرب كردة فعل على كثافة الهجرة، وتآكل الانسجام الديموغرافي لكل دولة على حدة، وانعدم أمن الفرد في حياته اليومية، سواء كان هذا الفرد في بلد فقير، أو في بلد غني، بسبب عولمة الإرهاب، والهدم الذاتي من داخل العولمة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

أثبت التاريخ أن نظرة الماركسيين والليبراليين، شديدة التفاؤل. وأن التاريخ قد يتقدم أحياناً، لكنه عرضة للارتداد، والجمود، بل قد يعيد التاريخ نفسه، في دورات صعود وانحطاط. نال التاريخ من غرور الليبراليين سيما أنهم في صدارة مشهد النصر بعد الحرب الباردة. والغريب أن الليبراليين لا تفسير لديهم لنكوص التاريخ، لكنهم لا ينقطعون عن التبشير بنظام دولي ديموقراطي فعّال.

يتبجح الليبراليون الجدد بأن احتمالات الحروب الكبرى بين الدول ذات السيادة، ابتعدت ما يجعلها مستحيلة قياساً بزمن الحرب الباردة، إلا أن الحروب الدائمة في أفغانستان، والعراق، واليمن، وسوريا، وليبيا، لا يعتبرها الليبراليون الجدد، من تداعيات انتصارهم في الحرب الباردة.

لاحظ المتشائمون من بنية النظام الدولي، أن المنافسات العنيفة بين القوى العظمى لم تختف، وبدل ذلك، أصبحت أشد وطأة، خاصةً في سياق عودة الصراع بين الإسلاميين، وبين الثقافات، والقوى العلمانية الحديثة، بل بين الإسلاميين الراديكاليين أيضاً، وبين اليمينيين الغربيين.

يقول الليبراليون المتفائلون إن الامتزاج، ومصلحة الأفراد الاقتصادية، وروح المواطن المعولم، عوامل قوية للعيش في عالَم واحد، تحكمه المساواة، والديموقراطية، وحرية التعبير. ربما أفضل رد على تفاؤل الليبراليين الجدد، هو صعود دونالد ترامب في أمريكا، وبوريس جونسون في بريطانيا.

اضطر الليبراليون الجدد، والديموقراطيون، واليساريون الديموقراطيون، للتحالف مع الإسلاميين الراديكاليين، والمهاجرين واللاتينيين، من أجل النجاح في الانتخابات، وكان وصول إلهان عمر ورشيدة طليب إلى الكونغرس، أكبر دليل على فقدان الناخب الأمريكي التقليدي الذي ارتمى غضباً في حضن اليمين القومي.

بالغت العولمة في إضعاف الروح القومية عند الدول الغنية والفقيرة، فالقومي لا يمثل خطراً فقط على الاقتصاد المعولم، بل القومي أيضاً عتيق الطراز، وضد روح العصر.

اخترع الليبراليون الجدد مصطلحات مثل العابر للقومي، أو العابر للوطني. العبور يعني أن الدولة لا سلطة لها على دخول وخروج رؤوس الأموال، حتى لو كانت مشبوهة، ومع عبور رؤوس الأموال، تنتفي نهائياً حدود الدولة.

المشكلة التي لم يعترف بها الماركسيون والليبراليون، أن المعركة الصفرية بينهما، هدمت توازن القوى، وهو توازن كان يحفظ عدم الجموح في كل شيء، الحقوق، والحريات، والقوانين.

الشمولية، والعالم ذو البعد الواحد، كارثة سواءً كانت في يد الماركسي، أو في يد الليبرالي الجديد.