ملصق فيلم "جواب اعتقال" (أرشيف)
ملصق فيلم "جواب اعتقال" (أرشيف)
الثلاثاء 18 فبراير 2020 / 20:43

مافيا الإرهاب… من الداخل

هذا الفيلم المحترم يقدّم لنا تشريحًا دقيقًا لطبيعة الحياة المزدوجة الكاذبة التي يحياها التكفيريون المخادعون الذين يُشرّعون ويخطّطون للإرهابيين السُّذج

نعرف عالم الإرهاب من "الخارج". لأننا ذلك "الخارج"، نحن ضحاياه الذين نتيتّم ونترمَّل ونثكل ونموت على أياديهم. تقريبًا في كلّ بيت مصري وسوري وعراقي، وفي آلاف من منازل العالم، صورة لشهيد، مسلم وغير مسلم، كان في يوم من الأيام أباً لطفل، أو زوجاً لسيدة، أو أخاً لأشقّاء، أو أبنا لأمٍّ ثكلى لن تجفُّ دموعُها إلا مع تحلّل عظامها في قبر. في كل بيتٍ مكلوم صورة لشهيدةٍ، كانت أمًّا أو أختاً أو حبيبة أو جارةً أو صديقة. وفي كل بيت سكنه الشرفُ مجاوراً للعار، فتاةٌ حزينةٌ أهدر داعشيٌّ شرفَها، باعتبارها سبيّة ملكاً لليمين، سوف تقضي بقية عمرها مصدوعةً كسيرة الروح لا تدري بأي ذنب مسَّ العارُ شرفَها.

كل ما سبق من فواجع هي الصورة "الخارجية" لعالم الإرهاب الأسود الذي صنعه داعش، الذين ليسوا إلا عرائسَ ماريونيت (صمّاء بكماء عمياء) ملطّخة بالدماء، تمسكُ خيوطَها أصابعُ تكفيرية قذرة تحفرُ أنهار الدم من دون أن تتلوّث به. التكفيريون الذين يأمرون بقتل البشر، دون أن يضغطوا زناد رشاش، أو ينزعوا فتيل قنبلة. أولئك هم المجرمون الحقيقيون الآمنون في بيوتهم وعلى شاشات فضائياتنا يبثّون السمومَ في الأدمغة، ويجدون من يصفق لهم ويُهلّل ويُكبّر.

جميعُنا نعرفُ عالمَ الإرهاب "من الخارج" لأننا ذلك "الخارج". نحن ضحاياهم وقتلاهم وشهداؤهم وسباياهم وثكلاواتهم وأيتامهم وأراملهم وأصدقاءُ وأقرباءُ وجيرانُ جميع مَن سبق من ضحايا الإرهاب. لكن من منّا قُدِّر له أن يتعرف على عالم الإرهاب من "الداخل". مَن منّا بوسعه التلصُّص على "مافيا الإرهابيين" من داخل كهفهم الأسود؟ الإجابة: لا أحد. لا يعرفُ "داخل" وكر الإرهاب، إلا مَن دخله. ومن دخله لا يخرج منه إلا قاتلاً أو مقتولاً. فكيف بوسعنا أن نتعرف على "دواخل" ذلك العالم الأسود؟
يجيب عن هذا اللغز الفيلمُ المصري العظيم "جواب اعتقال"، من إنتاج أحمد السبكي عام ٢٠١٧، تأليف وإخراج "محمد سامي"، وبطولة النجم المصري الموهوب "محمد رمضان" والنجم الأردني الموهوب "إياد نصّار". نتعرّف من خلال الفيلم على الشيخ الشاب "خالد الدجوي"/ "محمد رمضان"، المهندس الإرهابي "المتشكّك" في فكرة "جهاد القتل"، وهل هو بالفعل لنُصرة الإسلام وحصد رضوان الله، أم لتشويه الإسلام وإغضاب الله، لكنه يقتل رغم هذا التشكّك، لأنه جُنِّد منذ طفولته ولا مهرب له منه إلا بالموت. ندخل معه أروقة ودهاليز مافيا الإرهاب، لنتعرّف معه على عمق ما يعيشون من نفاق وازدواجية وكذب. عبقرية هذا الفيلم أنه غير مشغول بجرائم الإرهاب في حق المجتمع، اللهم إلا في مشهد خاطف في تتر المقدّمة أو مشهدين، ذاك أننا بالفعل نعرف تلك الجرائم حق المعرفة، بما أننا ضحاياهم كما أسلفتُ في مقدمة المقال؛ لكن الفيلم مشغولٌ بجرائم الإرهابي في حق زميله الإرهابي، وفي حق الله والإسلام قبل ذلك.

التكفيري الكذوب، "الشيخ مصطفى"، الذي أدّى دورَه ببراعة الفنان "صبري فوّاز"، يظهر على الشاشات في ثوب حمَل نقيٍّ تقيّ، ينهى الناسَ عن الكِبر والغشّ والكذب والنفاق والقتل، وهو غارق في كلِّ ما سبق من فواحش. يمارسُ الطبقية والعنصرية في أحطِّ صورها وهو ينادي المهندس بـ"ابن الخدّام"، لأن أباه كان خادمًا لأحد أمراء الجماعة التكفيرية. ويخطبُ في الناس في "مقام مخافة الله"، بينما يتحدّى الله جهرًا جاعلا من نفسه إلهًا يُحيي ويُميت. وحين سألته متّصلةٌ على الهواء عن رأيه في الجريمة الإرهابية الأخيرة التي استشهد فيها ضباطٌ ومجندون في الشرطة المصرية، اعتمر طاقية "التقية" الغاشّة، وقال لها: “أُشينُ وأُدين"، بينما كان هو أحد مخططي تلك العملية الخسيسة.
هذا الفيلم المحترم يقدّم لنا تشريحًا دقيقًا لطبيعة الحياة المزدوجة الكاذبة التي يحياها التكفيريون المخادعون الذين يُشرّعون ويخطّطون للإرهابيين السُّذج الذين يصدقونهم طمعًا في الجنّة والحور العين ورضوان الله، فيفجّرون ويقتلون أو يُقتَلون، بينما المجرمون الحقيقيون في مأمن على شاشات الفضائيات وصفحات التواصل الاجتماعي وفوق المنابر، تتكدّس خزائنهم بالأموال، ويحصدون التصفيق والاستحسان من جماهيرَ مغيّبة بائسة، لا تلمح خيوط الدم الخفية تقطر من عمائم التكفيريين. يفتون بالقتل، ولا يلوثون أياديهم بالدم، لأن هناك من يقومون بالمهمة ويدفعون الثمن عنهم. قطرةُ الدمع الأخيرة التي سقطت من عين "محمد رمضان" لحظة مقتله، تحمل ندمًا على خسران الدنيا والآخرة معًا. وتحمل رسالة مهمة لكل من يُسلم عقله لتكفيري خؤون.