إيطاليون لزموا منازلهم للوقاية من كورونا يغنون على الشرفات (أرشيف)
إيطاليون لزموا منازلهم للوقاية من كورونا يغنون على الشرفات (أرشيف)
الثلاثاء 17 مارس 2020 / 19:09

عاصفة كورونا السوداء

الاعتكافَ في البيوت فرصةٌ طيبة للقراءة والتعبّد والتنقّي ومصادقة النفس والحديث معها وتصحيح مسارها

في عام 2014، عاشت دولة نيجيريا حربًا ضروسًا ضدّ فيروس "إيبولا" الذي تسلّل إليها في جسد ديبلوماسي ليبيري-أمريكي، كان على متن طائرة من "ليبريا" إلى مطار "لاجوس"، أكبر المدن النيجيرية، التي كانت تضمُّ أكثر من عشرين مليون نسمة، في ذلك العام. مرّ الديبلوماسي بحال من الإعياء الشديد والقيء وارتفاع درجة الحرارة، فاشتُبه بإصابته بميكروب "الملاريا". لكن التحاليل في المشفى أثبتت حمله للفيروس القاتل: إيبولا. وبدأت المعركة المقدسة التي خاضها الأطباءُ وطاقم الممرضين النيجيريون في المستشفى المركزي بمدينة لاجوس، حتى لا ينتشر الفيروس الشرس، سريع الانتشار، بين سكان المدينة. تم تخصيص مكان بائس فقير للعزل الصحي للحالات المخالطة للديبلوماسي الأمريكي، وبإمكانيات محدودة للغاية بدأت الحرب الصعبة المباغتة غير المتكافئة. ثلاثة وتسعون يومًا من العراك الشرس، بين مجموعة من نبلاء الأطباء، ضد فيروس ضئيل قاتل، لا يُرى بالعين المجردة، انتهت بالقضاء عليه، مع سقوط نصف جيش المقاتلين النبلاء من البشر، قتلى بأنياب الإيبولا اللعين. خلّد تلك الملحمة البطولية الفيلم الأمريكي المؤثر (93 يومًا) من إخراج "ستيف جوكاس"، الصادر عام 2016.

العالم بأسره يعيش اليومَ حالاً مشابهة، بعد خضوعه لغزو مبهم من فيروس غامض، لا يشبهه أي فيروس معروف في كتالوج الفيروسات الحيوية التي دوّنتها مدونة الأحياء. فيروس ثقيل الوزن كبير الحجم نسبيًّا، بالمقارنة بعالم الفيروسات ضئيلة الحجوم، ولا يعلق بالهواء، شأن الفيروسات العادية، بل يسقط على السطوح حتى يعلق في خلية بشرية عن طريق اللمس أو التناول أو الاستنشاق، ليبدأ رحلة الانتهاك والتطفّل والافتراس. الفيروس كما وصلنا حتى الآن، يعتاش على الخلية الحيوية في الجسد البشري، فيتكاثر فيها ويشلّ حركتها ويودي بها. لكن رحمة الله سمحت بأن تتعافى نسبةٌ كبيرة من المصابين به كذلك. الفيروس ليس معروفًا حتى الآن إن كان من إنتاج الطبيعة أم انتاجًا بشريًّا، أنتجته جهة شريرة لأسباب سياسية أو اقتصادية، ثم خرج عن السيطرة وأخفقت في كبت جماحه. وعلى ثقله وضعفه، إلا أن شراسته تكمن في سرعة تحوّره وتطوّره وتغيير برمجياته، مما يعطّل جهود العلماء للوصول إلى طريقة للقضاء عليه. وبالتالي فمعركة البشر الآن تتركز في كيفية الوقاية منه، والحد من انتشاره بين البشر، على هامش جهود الكيميائيين وعلماء الفارما والأطباء في محاولة الوصول إلى مصل علاجي للنجاة منه. بدأت كل دولة في غلق أبوابها على نفسها، في محاولة لمنع دخول وافدين مشتبه في إصابتهم بفيروس كورونا الخبيث. وأوصت الحكومات شعوبها بالمكوث في البيوت قدر المستطاع وتجنب الاحتشاد في الطرقات والنوادي والمسارح وغيرها، لكي توقف شلال انتشار الوباء، الذي أخد مؤخرًا لقب: "الجائحة"؛ لأنه يجتاح العالم بأسره. أغلقت المدارس أبوابها في كثير من دول العالم، وأصبح التعليم عن بعد عن طريق مواقع أونلاين، لفترة ما، حتى تنجلي الأزمة بإذن الله. ولم يعد أمامنا إلا الامتثال لإرشادات منظمة الصحة العالمية وتوصيات وزارات الصحة في بلادنا.

والحقّ أن الاعتكافَ في البيوت فرصةٌ طيبة للقراءة والتعبّد والتنقّي ومصادقة النفس والحديث معها وتصحيح مسارها. وهي فرصة قلّما نغتنمها في دوامة الحياة المتسارعة التي تجرفنا كأوراق شجر في شلال هادر. شكرًا لكل الأطباء الذين يُضحّون بأرواحهم لعلاج المصابين بفيروس كورونا المستجد الغامض. وشكرًا لكل علماء العقاقير والكيمياء الذين يصلون الليل بالنهار للوصول إلى علاج لمواجهة الفيروس. وشكرًا لكل مواطن واع يستجيب لقرارات منظمة الصحة وزارة الصحة ويساهم في الحد من انتشار "الجائحة"، وكذلك الحد من انتشار الشائعات الرخيصة المحبطة التي تعطّل جهود الشرفاء الجادين. والله نسأل أن يمد يده الطيبة إنقاذ هذه الأرض المنذورة للمحن والويلات، من عاصفة كورونا السوداء.