الكاتب التشيكي فرانز كافكا (أرشيف)
الكاتب التشيكي فرانز كافكا (أرشيف)
الأربعاء 18 مارس 2020 / 20:16

قيود

ينظر خالد لرفوف الكتب باستهانة وبله، بينما يقترب عماد من جلستي، ويعزم عليّ بسيجارة مور، ويسحب قوله بأن المكتبة العامة ليستْ من أماكن الزوغان الأساسية، أو على الأقل ليستْ لنا أماكن أساسية

نحن أفراد العائلة، ولهذا نسعى إلى تعيين السيد الدكتور فرانز كافكا في قسم التأمين على الحياة، ليلحق فيما بعد، بالخدمة الخارجية، فلا طائل من محاولاته الأدبية، فهي جد متعثرة، غامضة بمقياس عصرها الأدبي، وهو نفسه غير متحمّس لها، وقد حاولنا من جهتنا، محبة له، وحرصاً على رضاه النفسي، استشراف أي مستقبل لتلك الغوامض الأدبية، حتى لا يحكم علينا التاريخ، بأننا فرضنا قيوداً على أعظم موهبة أدبية في القرن العشرين.

على الحاجز الخشبي دفتر كبير مفتوح على مصراعيه، وقلم رصاص مُقيَّد من أعلاه بدوبارة، ونهاية الدوبارة مُثبتة بمسمار خفي أسفل الحاجز الخشبي. كتبتُ اسمي الثلاثي، ورقم البطاقة الشخصية، وعنوان البيت، والهدف من الزيارة، الاستعارة، أم القراءة؟ يقع اختياري دائماً على القراءة، رغم أنني في نهاية اليوم آخذ كتاباً للاستعارة.

الهدف من الزيارة، كأنها جُمْلة لتعرية الزائر، وفضح نواياه، وماذا لو لم يكن هناك هدف من الزيارة؟ أقضي الساعات في المكتبة تحت وطأة السؤال، ليس لأنني لا أريد القراءة، أو الاستعارة، بل لأن القراءة، أو الاستعارة، تأتي عَرَضاً، لهروبٍ غير ذي معنى، يستأنس بجوارٍ، بحيث لو لزم الأمر أحتمي بهدف الزيارة.

كان التخفف من حقيبة المدرسة سمة عامة للزوغان. وكانت العقبة الأولى التي أواجهها، هي الخروج من البيت، أحمل على ظهري، أو في يدي حقيبة مليئة بالكتب والكراريس والكشاكيل، وأنا أعرف من ليلة الأمس أنني عازم في الغد على الزوغان.

وضعتُ في الحقيبة ما يلزم لليوم الدراسي، كأنني سأذهب بالفعل. وفي الطريق للمدرسة تظهر العقبة الثانية، وهي التخلص من الحقيبة الدراسية طوال ساعات الزوغان ثم استعادتها مرة ثانية في نهاية اليوم. خالد وعماد تعهدا بأن نترك الحقائب عند راجح المكوجي الكائن في منتصف الطريق إلى المدرسة.

وكانت العقبة الثالثة أن أماكن الدوران والسرْمَحة بعيدة عن راجح المكوجي، وتزداد بعداً وثقلاً قرب نهاية اليوم، بعد خمود الهِمَّة، وانطفاء البريق. عالجتُ وحدي العقبة الثانية، ولم تكن المُعالَجَة على هوى الصديقين، وهي الذهاب مباشرةً إلى المكتبة العامة، وكنتُ أعتبرها من أماكن الزوغان الأساسية.

رفض الصديقان اقتراحي الأول، لقيد الوجود بجوار الحقائب، واعتبرا المكتبة العامة مكاناً مملاً. وليس لكونه مكاناً مُناسباً للتدخين، فيجب علينا اعتباره مكاناً أساسياً للزوغان. شوف يا ابن الناس إنت من طريق، وإحنا من طريق. سعدتُ بانقطاع الصداقة، وأصبح زوغاني أكثر شروداً.

من حين لآخر كنا نلتقي صدفةً في تقاطع المسارات الأساسية. كانا يشعران بالذنب إذا دخلا المكتبة، ووجداني في غرفة المراجع النائية، وهي الغرفة الوحيدة في المكتبة التي نستطيع فيها خرق القواعد، بتدخين سيجارة.

كنتُ آتي بكتابٍ من غرفة الأدب، وأضعه في غير مكانه أثناء مدة قراءته. ينظر خالد لرفوف الكتب باستهانة وبله، بينما يقترب عماد من جلستي، ويعزم عليّ بسيجارة مور، ويسحب قوله بأن المكتبة العامة ليستْ من أماكن الزوغان الأساسية، أو على الأقل ليستْ لنا أماكن أساسية.

أولى ثانوي، 1980، زوغان من المدرسة لليوم الخامس على التوالي، الزوغان مشطور إلى نصفين كما الجسد والروح، المقهى والسينما والتسكع في الحدائق والشوارع مع أصدقاء ضالعين في الزوغان، ثم الانفصال عنهم إلى مكتبة حلوان العامة، لأخذ حصة الروح.

بالأمس وضعتُ رواية فرانز كافكا "المحاكمة" في غرفة كتب المُحَاسَبَة والقانون، بعد أن نقلتها من غرفة الأدب والفلسفة. راحة وطمأنينة أن يوجد كتاب في غير مكانه. أنت هنا غريب عن رفاقك. ولم أكن في عمر يسمح لي بالتقاط مُفَارَقَة أن كافكا ملك الغرباء، لكنه في ذات الوقت، ليس غريباً على القانون.

كنتُ في طريق المشي إلى المدرسة الثانوية، أقصد شوارع بعينها، لمجرد الألفة برؤية بيوت أحب معمارها. الطريق يأخذ نصف ساعة في حالة الذهاب إلى المدرسة. كانت الدقائق العشر الأخيرة من زمن الطريق، هي الحاسمة في قرار الزوغان.

عند تقاطع شارع صالح صبحي مع شارع خسرو، كانت نسرين تقف في الشرفة القريبة جداً من سطح الأرض. تعيش مع جدتها. وكانت في سنتها الأولى الجامعية. نسرين تملك قرار عدم الذهاب إلى الجامعة، وفي نفس الوقت لا تغادر البيت. كان حلمي عدم الذهاب إلى المدرسة، والبقاء في البيت طوال أسبوع كامل.

ضحكتْ نسرين وقالت: سيتركونك بعد دخول الجامعة، تجلس في البيت كيفما شئت. كنتُ أرى داخل الغرفة من مكاني على الرصيف. وكان كوب الشاي بالحليب على حاجز الشرفة السميك. تجاوزتْ الساعة السابعة والنصف صباحاً. بريق الزوغان. لاحظتْ نسرين. السينما أم المقهى أم المكتبة؟ قلتُ لها: الإفطار على المقهى أولاً. قالت: إذن المقهى من ثوابت البريق.

دخلتْ نسرين إلى الغرفة. شلل أطفال خفيف في ساقها اليمنى، وبطريقة ما أكمل الشلل غنجاً ودلعاً في مشية نسرين بحيث كان يأتي في منتصف الحركة دافعاً ردفها إلى أعلى دون أدنى شُبْهَة إعاقة.

قالت لي شقيقتي بعد مُشاهَدَة فيلم السهرة: أبوك رايح بكرة يعمل لك إعادة قيد. كنتُ في الصف الأول الثانوي. وكانت مدة انقطاعي الدائم عن المدرسة قد تجاوزتْ ثلاثين يوماً. كان قول شقيقتي يعني أن لا أتغيَّب عن المدرسة في الغد، وربما كان قولها بوحي من والدي الذي لم يكن يريد مواجَهَة فشلي.

كان يكره إجباري على شيء، ويبقى عاجزاً منتظراً في اللحظة الأخيرة إحساسي بالذنب، والعدول عن الطيش. كان والدي يفوز بأسوأ الاثنين، وهو إحساس بالذنب يثقل كاهلي إلى حد الحزن، أمَّا العدول عن الطيش فقد كان عليه أن يصححه صامتاً مُتمنياً في كل مرة أن تكون حركتي عابرة في الإحساس بالذنب، ومُقيمة في العدول عن الطيش.
كان إجراء إعادة القيد يستدعي حضوري مع والدي في غرفتين، غرفة شؤون الطلبة، وغرفة ناظر المدرسة. وكان من ضمن الامتيازات المؤقتة التي يتمتَّع بها طالب هارب من القيد، هو التَسَكُّع داخل فناء المدرسة أثناء ساعات الدراسة. سيأتي والدي قبل منتصف اليوم الدراسي، ومن الممكن لي أيضاً عدم حضور النصف الثاني من اليوم الدراسي، استعداداً لانتظام الغد.