غلاف كتاب "جواز صلاة الرجل في بيته" (أرشيف)
غلاف كتاب "جواز صلاة الرجل في بيته" (أرشيف)
الأربعاء 18 مارس 2020 / 20:21

جواز صلاة الرجل في بيته

في زمن فيروس كورونا 2 والتدابير الوقائية التي اتخذتها الحكومات العاقلة لحماية المواطن والمقيم من شر هذه الجائحة، ثار التساؤل عن صلاة الناس في دور العبادة، فهي من ضمن الأماكن التي قد يوجد فيها الناس بالمئات والآلاف، ما قد يؤدي لانتشار الفيروس، إن كان في هؤلاء مصاب واحد.

"وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ". يبدو لي أن حكم الإسلام في هذه القضية واضح

كنت قد كتبت كتاباً منذ عشرين عاماً، اسميته "جواز صلاة الرجل في بيته" ألفته لسبب مختلف ذكرته في المقدمة، هو أن الناس في بلدنا، في أيام هيمنة "تيار الصحوة" كانوا يبالغون جداً في هذا الموضوع، وينظرون بعين الاحتقار لمن لا يصلي في المسجد، بل قد يكفّره بعضهم بحجة أنه تارك للصلاة أو لم يثبت أنه يصلي، وقد يمتنعون من الصلاة عليه إذا مات.

وذكرت هناك أن القضية قد اكتنفها كثير من النفاق، فمن يصلّون في المسجد لا يغادرون لبيوتهم بعد انتهائها، بل يقفون أمام المسجد يتحدثون ويمدون أبصارهم إلى بيوت من غابوا في نظرة لا تتسم بالمحبة.

وكنت إذا دخلت في نقاش مع واحد من هؤلاء قال: "كيف نقتنع بكلام أستاذ في آداب اللغة الإنجليزية، ونترك فتاوى الشيخ فلان والشيخ فلان؟ المسألة مسألة جنة ونار وليست بلعب".

هذا كلام لا يخلو من المنطق، لكني كنت أجيب بهذا السؤال: "قبل الشيخ فلان والشيخ فلان وأشياخهم وأشياخ أشياخهم، من كان يفتي الناس؟" فيقول "أهل السنة يتبعون أبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل" فأقول: "فكيف إذا أثبت لك أن الأربعة كلهم كانوا لا يرون أن الصلاة في المسجد واجبة؟".

أما جمهور فقهاء السنة فلا خلاف أنهم كلهم لا يعتقدون بوجوبها، وأما أحمد بن حنبل، فروى ابن أبي حاتم الرازي في كتابه الجرح والتعديل 1/298، حكاية بإسناد كلهم ثقات أن جماعة كثيرة اجتمعت وفيهم علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، فنودي بصلاة الظهر، فقال علي بن المديني: نخرج إلى المسجد أو نصلي ههنا؟ فقال أحمد: "نحن جماعة، نصلي ههنا".

هذا هو مذهب أحمد بن حنبل، يعتقد بوجوب الجماعة، لكنه لا يعتقد بوجوب أدائها في المسجد. ولذلك وجدنا مُنظر الحنبلية الفقهية الموفق بن قدامة يكتب في كتابه "المغني" يقول: "ويجوز فعلها في البيت والصحراء"، و"إن أمّ زوجته كانا جماعة" بمعنى أن الرجل الذي يصلي مع زوجته، أو أولاده، لا ينقص أجره عن أجر من صلى في المسجد، بل له ولزوجته ولأولادهما سبع وعشرين زيادة على من صلى منفرداً.

هذا في المذهب الحنبلي، أما بقية المذاهب السنية، فلا يعتقدون بوجوب الجماعة من الأساس، لا في مسجد ولا غيره، وثقت في هذا الكتاب خمسة وعشرين أثراً عن خمسة وعشرين صحابياً كلها تدل على عدم وجوب الصلاة في المسجد.

وأتيت بتسعة عشر أثراً عن فقهاء التابعين كلها تدل على سنية الصلاة في المسجد وعدم وجوبها. بل إن الفقيه الموسوعي ابن عبد البر ساق كلاماً يكاد يدل على الإجماع على عدم الوجوب.

يقول ابن عبد البر في موسوعته الفقهية "الاستذكار"  2/ 136: "وقد احتج بهذا جماعة من العلماء، وعلى هذا أكثر الفقهاء بالحجاز والعراق والشام، كلهم يقولون إن حضور الصلاة في جماعة، فضيلة وسنة مؤكدة لا ينبغي تركها وليست بفرض. ومنهم من يقول إنها فرض على الكفاية، ومنهم من قال شهودها سنة مؤكدة، ولم يرخص في تركها للقادر عليها ومن تخلف عنها وصلّى في بيته جزت عنه إلا أن من صلاها في المسجد جماعة أفضل".

لا ينبغي بتاتاً أن يكون هناك خلاف في هذه المسألة، ففي الحديث النبوي، أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: "أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" وذكر منها "وجُعلت لي الأرض مسجداً، وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ". يبدو لي أن حكم الإسلام في هذه القضية واضح.

لكن ما حدث، بعد صدور ذلك الكتاب، كان كارثة فوق كل تصور. لقد كالت لي "الصحوة" صنوفاً من الأذى، لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي أبداً. مثل أن يُدعى على مؤلف الكتاب باسمه في المساجد في تراويح شهر رمضان بالشلل، والسقم، وسائر الأمراض، وتأليب الرأي العام والخاص، ومحاولات الفصل من العمل، والمضايقات في العمل بالسب، والشتم، وتشويه السمعة، والمطالبة بتطليق زوجة الكاتب، بسبب خروجه من الدين، وقصة طويلة الذيول، قد أكتبها يوماً بعد التعافي من آثارها.