السبت 28 مارس 2020 / 20:24

العالم بعد كورونا

لقد بات واضحاً، ليس لعلماء العالم وفلاسفته، بل لأواسط الناس، أن العالم سيتغير للأبد، فالعالم قبل كورونا ليس هو العالم بعد كورونا، وإن بقيت رسوم دارسة من بقايا العالم القديم

لقد بات واضحاً، ليس لعلماء العالم وفلاسفته، بل لأواسط الناس، أن العالم سيتغير للأبد، فالعالم قبل كورونا ليس هو العالم بعد كورونا، وإن بقيت رسوم دارسة من بقايا العالم القديم. القضية لا علاقة لها بقراءة الكف ولا النظر في حركة الأفلاك ولا بأي علم من العلوم الزائفة تلك، بل هناك قراءات وأجماع، بين شديد التشاؤم الذي يرى أننا شهود على نهاية العالم، وشديد التفاؤل الذي يراه فيروساً صغيراً سيضعف انتشاره في الصيف، على أن هناك خسارات كبيرة وقعت وخسارات أخرى في الطريق.
  
وإن صحّت قصة الصيف هذه، فالفرق ليس بكبير، فقد غيّرنا الفيروس لدرجة أن أصبح من غير المستساغ بتاتاً الحديث عن مناطق حارة آمنة من الفيروس في الصيف، بحيث نشاهد إخوتنا من بني الإنسان والمرض يفتك بهم وبأطفالهم، مغتبطين بسلامتنا، إن ثبُت أن لنا سلامة. ضع إلى جوار هذا أن الدولة الآمنة لن تبقى للأبد آمنة، إن كانت جارتها موبوءة وحكومتها لم تحسن التصرف. وإنه لموقف تعيس أخلاقياً ومنطقياً وبكل المعايير من كل نوع، أن يفرح الإنسان بانتشار الفيروس في دولة ما، على أساسٍ من الخلاف السياسي.

أكثرنا راحة، أو هم أقلنّا قلقاً، هم أصحاب نظرية المؤامرة. ما حدث بالنسبة لهم هو حرب جرثومية بين الولايات المتحدة والصين، وقد انقسموا إلى قسمين، قسم يرى أنها أمريكا لتضرب الاقتصاد الصيني، وقسم يرى أنها الصين الراغبة في تدمير أمريكا. نظرياتهم كما يقول المثل "أحاديث سُمّار بجوار النار" لأنه يصعب جداً إثبات مثل هذه الدعاوى، ولأنه يصعب إثباتها، فستخرج دائماً رواية مضادة، ولن تتملص كلها من دائرة الروايات إلى مربع الحقائق. وقد انضم لأصحاب نظرية المؤامرة اليوم شخصية كبيرة، الرئيس ترمب الذي ادعى أن فيروس كورونا ليس سوى مكيدة من مكائد أعدائه وأنه سيتم القضاء عليه في لحظة. هذه اللحظة لم تأت بعد، وقد فرح أصحاب نظرية المؤامرة بالعضو الجديد، وكل من سار في هذا الخط مرتاح كسول، لأن المؤامرة تعفيك من العمل ومن كل شيء.

على الصعيد الحقيقي، ما حدث كان صدمة كبرى لكل العالم. هل كان من الممكن، ولو في الكوابيس، أن نرى كورونا يستشرى في نيويورك؟! نيويورك .. نيويورك .. "مدينة المدن" كما تقول أغنية "لايزا مانيلي" وفيلم مارتن سكورسيزي ، أعْلِن أنها أصبحت منطقة كارثية federal disaster area بعد تجاوز أعداد المصابين خمسين ألف شخص وحصول التدافع وارتباك المستشفيات أمام المشهد المرعب. وتلا ذلك إعلان عن ضرورة توفير المزيد من أجهزة التنفس الصناعي تحسبا لنقص الأعداد المطلوبة منها، ومن الأقنعة التي ثبت أنها ليست فعالة بالقدر الكافي في تحقيق السلامة من الفيروس.
هذا التدافع والإعلان عن حاجة نيويورك للوازم الطبية الضرورية وتحركها لتحصيلها، اصطدم بجدار حظر السفر! وفي 17 مارس كتب توماس فريدمان في النيويورك تايمز مقالة طالب فيها بإغلاق الويات المتحدة قبل أن تتحول الخمسة آلاف حالة إلى مليون حالة من المصابين بالفيروس، إلا أن عقلية رجل الأعمال الذي يحكم الولايات المتحدة اليوم، أبقت عيونه على الخسائر الاقتصادية الهائلة الناتجة عن الإغلاق، وأبت عليه أن يتصرف كزعيم أمة حقيقي، كما كان لنكولن سيفعل لو كان حياً.

الصين قلبت الطاولة على الإدارة الأمريكية والرئيس ترمب الذي اسمى كورونا "الفيروس الصيني" في حماقة أخرى زادت من لهيب المعركة بين الدولتين وأضعفت الدعوة للتعاون الدولي، فاستغلت النجاح الذي سجلته بجدارة واحترافية عالية في محاصرة الفيروس لتسجل فوز ساحق آخر على أمريكا وأوروبا مجتمعتين. حدث هذا، حين شرعت أعداد المصابين الجدد في التناقص المستمر في الصين، بينما أعداد المصابين تتزايد باستمرار في الولايات المتحدة وأوروبا، كنتيجة واضحة لقرارات العزل الصارمة التي اتخذتها الصين للسيطرة على المرض، والتعامل الكارثي في الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية. كل هذا سيرسخ الاعتقاد بأن الصين في صعود، وأن الحضارة الغربية في انحسار كما في النبوءة القديمة لأوزالد شبينغلر التي تُستدعى كلما حلّت بالغربيين كارثة. هل الوضع سيء لهذه الدرجة؟

الاتحاد الأوروبي سيتفكك لا محالة. ما فائدة الاتحاد ودعاوى التضامن إن كانت لا تفيد في مثل هذه الظروف. إيطاليا الجريحة طلبت النجدة من دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني أصلا من الركود الاقتصادي الأخير، ثم اشتكت علناً من غياب الدعم الأوروبي، في حين تقدمت الصين ومدت يد المساعدة للإيطاليين المنكوبين وساندتهم بعشرات الأطنان من المعدات الطبية، ثم انتقلت بعد ذلك في استعراض سياسي واضح للإعلان عن مد يد العون لكل العالم في مواجهة الوباء، ورفع الإعلام الصيني شعارات تتحدث عن شجاعة الصين ومعاناة أمريكا في توظيف متوقع تزيده قصة "الفيروس الصيني" تأجيجاً.

خلاصة المشهد أن "سنة كورونا" ستكون في المستقبل أشهر من "سنة الطاعون"، أنماط حياتنا وعاداتنا كل هذا سيتغير، وعلى الصعيد السياسي قد نكون أمام نظام عالمي جديد، وقد لا نكون، فمن يكتشف المصل الذي سيقضي على وباء كورونا سيكون هو القطب الأوحد الجديد، أو المحافظ على حزام البطولة.