السبت 28 مارس 2020 / 20:52

"كورونا" .. رأسمالي هو أم اشتراكي؟

هاتفه صديقه ملهوفًا، فظن أن فيروس "كورونا" قد نال منه. أنصت قليلًا إلى الحروف الملتهبة التي تخرج من جوف يتقد نارًا، وسأله:
ـ هل أنت بخير؟
أجابه بلا تردد:
ـ إن كنت تسأل عن جسدي فهو سليم إلى الآن، أما ما يضنيني حقا هو أن الناس لا يريدون أن يفهموا أن "الفيروس" ليس أكثر من حرب بيولوجية بغيضة للقضاء على آخر الاشتراكيات الناجحة.
ضحك ورد عليه:
ـ يا رجل، ما يجري الآن لا يخدم ما تقوله .. كورونا يضرب في كل مكان، ولا يفرق بين الناس على أساس دين أو عرق أو طبقة أو جهة أو ثقافة.

كان يعرف الميول اليسارية لصاحبه، فلم ينتظر إقناعه سريعًا، لكنه وجدها فرصة لإدارة نقاش عن بعد، طالما اشتاق إليه في عزلته التي لا يعرف أحد متى تنتهي؟ كان عليه أن يغمض عينيه وهو يحدثه، ليستدعي جسده إلى حيث يجلس هو في صالة شقته، ممكسًا بسماعة الهاتف الأرضي، الذي يراه في تلك الأيام العصيبة أقرب همزة وصل مع الآخرين. أكثر بالطبع من الهاتف النقال، وما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي. فالهاتف البيتي المستكين يبدو ابن زمن التقارب الحميم بين الناس، حتى الصوت الذي يأتي عبره عميق دافئ، يشعرك أن من يحدثك ينظر إلى ما تنظر إليه في صالة بيتك.
أراد أن يلهب النقاش حتى يطول، فهو يفكر الآن في قتل أكبر وقت خلال هذا الليل الذي يمشي بطيئًا، فأطلق في وجهه سؤالًا افتراضيًا:
ـ هل كورونا رأسمالي أم اشتراكي؟
جاءته قهقهة من الطرف البعيد، لكنه سمعها كأنها تنطلق من المقعد المقابل له، ثم أعقبتها إجابة فاترة:
ـ سؤال مغرض.
بادله الضحك وقال:
ـ ماذا يمكن أن أقول لمن يصر على أن يجعل كورونا عضوا في الحزب الجمهوري الأمريكي؟
خفض صوت قهقته هذه المرة وسأل في اتجاه آخر:
ـ هل تنكر أن الصينيين نجحوا في السيطرة على الوباء؟
ثم أجاب نفسه:
ـ أثبت الرجال الصفر القصار ذو العيون الضيقة أنهم يقبضون على شيء عظيم، يجب أن يؤمن به العالم، ولا عزاء لفلول الغرب المهزوم.
استفزه هذا اليقين فقال له في غيظ، لم يستطع كتمانه:
ـ يستغل أنصار الاستبداد ما نحن فيه للترويج لهذا الشيء، وينسون العتمة التي لفت الوباء، وهو يتسلل إلى الصدور في "ووهان" المنكوبة، ولولا هذا ما تفشي في العالم كله على النحو الذي نراه.
ـ أتقصد .. ؟
لم يدعه يُكمل، وقال:
ـ الاستبداد هو أس البلاء في كل زمان ومكان.
كان يعلم في هذه اللحظة الجدل الذي وصل إلى منتهاه، وكيف غاص في أعماق بعيدة حول شكل العالم الذي لن يعود بعد كورونا مثلما كان قبلها؟ وكيف انبرى فلاسفة ومفكرون وعلماء سياسة واجتماع وأدباء لهذا النقاش، وأطلقوا قدرتهم على التخيل؟ وكيف أن بعضهم قالوا إن الغابة ستظل على حالها بعد أن يجف ريق الذي يدعون الناس إلى التعاون وقتل الكراهية؟
سمع تلاحق أنفاسه في سماعة الهاتف، وتخيله في هذه اللحظة، يحدق في سقف الحجرة، ويحك ذقنه، ويجمع كل ما في رأسه حتى يرميه في ضربة واحدة، لم تتأخر:
ـ بناء الدول يحتاج إلى صرامة.
ـ الصرامة تختلف عن القهر.
كان ردًا عاجلًا، فعادت أنفاسه تتلاحق حتى صارت لهُاثًا وصلت حرارته إلى أذن سامعه، ثم نطق، وهو يعض على الكلمات بأضراسه:
ـ التنمية تحتاج إلى القهر أحيانًا.
رد عليه وهو يداري امتعاضه:
ـ أي تنمية تستعبد الإنسان أو تقهره تحمل بذور فنائها.
وأراد أن يطيل أمد النقاش، كي تمضي ليلة أخرى في هذا العزل الصحي القاسي، فألقى في مجراه عبارة طالما رددها:
ـ المال في خدمة البشر، وليس البشر في خدمة المال.
سمع قهقهة من جديد ممزوجة بسعال رطب، غير ذلك الذي يسببه كورونا، وجاءه الرد:
ـ وهل الشيء الذي عليه الصينيين غير هذا، بينما لم نسمع من الغرب أكثر من كلمة الربح.
ابتسم هذه المرة، وعدل وضع السماعة على أذنه، وسأله:
ـ لا يضير أبدًا أن يجتمع الكسب مع الحرية.
أعاد الحديث إلى نقطة البداية، وأجاب:
ـ لا تحدثني عن الحرية في زمن الوباء.
وجدها فرصة لإطالة أمد الكلام، فربما تمر هذه الساعات الثقيلة قبل موعد نومه الذي صار مع مطلع الصبح منذ فرض حظر التجول، فراح يشرح له ما يؤمن به من معاني الحرية ثم قال:
ـ لا أنكر أن توفير ما يحتاجه الناس من رعاية صحية وغذاء الآن هو في صميم الحرية، فالجائع والمريض ليسا حرين، لكن القهر والتعتيم جعل الرعاية للكل مستحيلة في وقت يتساقط فيه الناس إعياء، بأعداد تفوق قدرة المشافي على استعيابهم.
طلب منه أن ينتظره لحظة على الهاتف، وسمع وقع خطواته، ثم نداءه زوجته، وطلبه منها إحضار كوب ماء ساخن وأن تذيب فيه بعض الملح والخل، ثم عاد يقول:
ـ أفضل الغرغرة قبل النوم عدة مرات، يقال إنها تقتل أي فيروس يتسلل إلى الحنجرة.
لم يدر إن كان يقدم له نصيحة جيدة في مواجهة الوباء الجائح أم يوارب الحديث من أجل أن ينصرف إلى النوم. كانت الثانية صعبة على نفس السامع، فالساعة لم تكن قد تجاوزت الواحدة صباحًا بعد، وكم تمنى لو امتد بينهما الحوار حتى الظهر، ليكسبا معًا بعض الوقت في مواجهة الفيروس، بعد أن قيل للناس:
ـ ابقوا في منازلكم واكسبوا وقتًا، فربما يضعف الفيروس مع حلول الصيف، أو يتوصل أحد إلى دواء.
أراد أن يحدثه عن الطعام والشراب الذي جمعه الناس في ألمانيا ووضعوه على الطرقات ليعين المحتاجين، أو الأموال الطائلة التي خصصها الأمريكيون لمساعدة الشركات والهيئات والأفراد الذين تضرروا من الوباء. لكنه لم يشأ في هذه اللحظة أن يدفعه إلى التبرم، فيهرب من النقاش إلى النوم. كان يحتاج إلى وجوده يتحدث معه، حتى لو أعلن له هزيمته في النقاش، وأقر بوجهة نظره، وقال له بصريح العبارة:
ـ كورونا رأسمالي التوجه.
ولم يكن هذا صعب عليه، فهو إن كان يؤمن بأن الإنسانية لا توجد إلا مع الحرية، فهو طالما نادى بحق الناس الأصيل في الطعام والدواء والسكن، وهو يدرك أن محدثه على الطرف الآخر لم يفقد الذاكرة حتى ينسى كل ما يعرفه عن صاحبه، وقد جمعتهم في المقاهي والمكاتب وعلى مقاعد السيارة في السفر الطويل مناقشات عميقة لا تزال قائمة، فلماذا يريد أن يغادر إلى النوم مبكرًا؟ نعم مبكرًا، فتجاوز انتصاف الليل في زمن كورونا لا يعني أن الوقت قد تأخر أبدًا، والمستيقظ بوسعه أن يحرس فتحات أنفه وعينيه وفمه من هذا الغازي اللعين.
لهذا قال له:
ـ دعك من بحثنا العبثي عن هوية الفيروس، ولنفكر سويًا في طريقة لقضاء ليلة جميلة بين متباعدين.
جاءه صوت واهن من الطرف الآخر:
ـ يبدو أن الفيروس لم يبعد بين جسدينا فقط، لكن في أفكارنا أيضًا.
ولأنه كان يعرف أن صاحبه مسكون بنظرية المؤامرة، فاكتفى بالقول:
ـ لا بأس، حتى إن كانت للفيروس هوية، فعلى الأقل هو يفرض علينا جميعًا التعاون والصراحة.