السبت 11 أبريل 2020 / 20:30

ما الذي حلّ بالعالم؟

لقد أصبحت مدن العالم اليوم كمدن مسلسل The walking dead، خاوية من الحركة والحياة البشرية. أقول "البشرية" لأن حبس أنفسنا في البيوت وتوقف المصانع والسيارات عن تلويث البيئة قد أعاد الحياة لكائنات حية أخرى كنا نظنها على وشك الانقراض. هذه الكائنات، بلا شك، تتنازعها مشاعر البهجة والدهشة مما يحدث. لقد ماتت الحياة وعادت الحياة. وقد اقتربت الدلافين والأسماك الأخرى من الشواطئ وصارت تقتحم البحيرات المصطنعة وتلعب هناك. والحيوانات البرية بدأت تفقد خوفها المرعب من بندقية الإنسان فصارت تتجول في العواصم الكبرى، بلا اكتراث.

هل تذكرون "ويل سميث" في فيلم "أنا أسطورة"؟ ذلك الفيلم صوّر لنا كيف أتت الأسود والغزلان لتتجول في مدينة نيويورك، التي أصبحت خاوية على عروشها بعد أن هجرها البشر بسبب فيروس تفشى في العالم. هذا ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بل في كل مكان نسمع من يتحدثون عند عودة حيوانات ظن الناس أنها انقرضت بسبب الصيد المتهور الذي كان يمارس طوال العقود السابقة.

السماء الآن تبدو صافية في كل مكان من العالم، فقط جرّب أن تستيقظ من شروق الشمس وتحدّق في السماء، إنه مشهد في غاية الجمال، لقد ارتاحت الطبيعة أخيراً وتنفست الصعداء بعد أن بقينا نخنقها بدخان المصانع السام لمدة قرون، نخنقها بأشجارها التي نبترها منها، ثم نحولها إلى حطب، وبواسطة الفحم الذي نقتلعه من جوفها، نفعل كل ذلك بإسراف شديد وروح استهلاكية تسير بلا هدف، مستخدمين التقنية، التي وعدنا أنفسنا بأن نستخدمها لأقصى حد، ممعنين في انتهاك جسد الأم.

ثلاثة قرون من الخنق، منذ أن دشّن فيلسوف بريطانيا الأول فرانسيس بيكون الطريقة الجديدة مع استهلال القرن السابع عشر والتي سيتعامل بها الإنسان مع الطبيعة: استخدام العلم لتسخير الطبيعة للإنسان لأقصى حد. لقد كان بيكون هذا روح عصره، عصر جديد مفتون بالطبيعة، لكن على نحو سلبي، أقول سلبي لأنه سلبها كل شيء، لم يُبق لها شجراً ولا حجراً، في حين إن الطبيعة هرمية يقوم بعضها على بعض، فعندما تُفني نباتاً معيناً فقد حكمت بالإعدام على كائنات أخرى تقتات عليه. ولا زالت الطبيعة تنكفئ وتتراجع وتهرب معها حيواناتها، كلما قطعنا أشجارها ونباتاتها وشيدنا مكانها حضارتنا المصطنعة. كان من الممكن الحديث عن حلول وسيطة، لكن الجشع والسباق على قتل روح العالم، سيؤدي في النهاية إلى أن يصبح الكوكب غير صالح للحياة، ما لم نتدارك الأمر، ونتغير قبل فوات الأوان.

في أيامه، تحدث الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن فناء الإنسان وبقاء العالم والطبيعة بعده. لماذا؟ لأن الإنسان يقوم بكل التدابير اللازمة لدمار نفسه بنفسه، الجشع سيقتله، الشعور الدائم بالقلّة والفقر سيدفعانه إلى مزيد من الشح، وعندما تزداد الأمور سوءاً سيشح بالعلاج والطعام على جاره.

هذا الإنسان، لقد ظل يشعل الحروب وراء الحروب ولا زالت حروبه مع نفسه مستمرة. حروب ثارت وأكلت الأخضر واليابس بسبب الجشع والرعب والسعي إلى السلطة. لقد عانى الإنسان من نفسه كثيراً وقد عانى أشد المعاناة من عقله، وإنه لعقل شرير ذلك الذي اخترع القنبلة الذرية وقبلها الرشاشات والغواصات وقاذفات اللهب والغازات السامة، عالم خضع فيه العقل للجنون.

في القرن العشرين فقط، قتل الإنسان من إخوته بني الإنسان مائة مليون، مليون روح أزهقت بدون سبب مقنع. هذا الرقم لم نأخذه من الحربين العالميتين فقط، بل إن ستالين الناطق باسم الطبقة العاملة، قد قتل من البشر ما ينافس به النازي هتلر. ومتابعة القنوات الإخبارية بشكل يومي، وهو أمر يوصى بتركه من أجل صحتك، يؤكد أن الجنون لا زال مستمراً حينما نرى الحرب السورية التي صار عمرها بطول عمر الحربين العالميتين معاً.

هناك مشكلة عويصة في العقل الجمعي للإنسان، هناك رغبة مجنونة للقتل والانتهاك والانتصار تحكم هذا العقل، والطبيعة قد انفجرت وسأمت من كل هذا الجنون. هذا الفيروس كورونا، قد نشأ من الطبيعة، لم ينشأ من فراغ، بل نشأ من باطن يكاد ينفجر. ومع هذا لا زال الإنسان في حالة حرب مع نفسه. أعظم دولتين اليوم، في عرف القوة، أمريكا والصين لا زالتا ترفضان أن يجلس العلماء من البلدين سوياً، عسى أن يُنتج جمع ما عند كل واحد من الطرفين من معلومات، عن إيجاد لقاح يحل مشكلة كورونا. كلا الطرفين يريد أن يكون هو من يجد اللقاح لأن من يجده سيكون هو القطب الأوحد، وكل واحد منهما يريد أن يحلّ الدمار باقتصاد خصمه، والكل غافل سادر عن الرسالة نفسها.