الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين.(أرشيف)
الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين.(أرشيف)
الأربعاء 15 أبريل 2020 / 20:17

جدل الاستثناء والقاعدة

الدول ليس كما يُصوّر الوهم للفيلسوف الإيطالي، ترغب في الاستثناء، لمد خيوط قمعها، بل هي كدول غربية ديمقراطية، أبعد ما تكون عن القمع، وقد تكون معضلتها، أنها بالغتْ، أو أفرطتْ في إعطاء الحريات على حساب القانون الوضعي

أثار الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، البالغ من العمر 78 عاماً، بحديثه عن حالة الاستثناء، التي تفرضها حكومات الدول على الشعوب، والمتمثلة في حظر الحركة والتنقل، للحد من عدوى فيروس كورونا الوبائي، ردود أفعال غاضبة، لأن الفيلسوف أغفل أعداد الموتى، وشراسة الوباء، ودافع بأنانية، ورفاهية لا تُحْتَمَل، عن الحريات الحياتية، الفردية، فهو يعتقد أن تقييد حركة المواطنين، له تبعات سياسية، سلبية، قد تستمر فيما بعد الوباء.

يرى جورجيو أن حالة الاستثناء، هي حالة طوارئ، تفرضها الدولة دون مسوغ، لتوسيع سلطاتها، فتصبح دولة استثنائية. يعتبر جورجيو أن إنفلوانزا كورونا مثلها مثل الإنفلوانزا العادية. يبدو أن أحداً لم يُعلم الفيلسوف أن آلاف الإيطاليين ماتوا بإنفلوانزا كورونا في مدة زمنية لا تتجاوز 30 يوماً، وهذا لا يحدث مع الإنفلوانزا العادية.

تجاهل جورجيو أغامبين أن إيطاليا أهملتْ حالة الاستثناء في بداية انتشار الوباء، وهذا يعني أنها كدولة، لم تكن تحلم بتوسيع سلطاتها الاستثنائية. كان تلكؤ إيطاليا في فرض قيود على حركة المواطنين، سبباً رئيسياً في مُضاعفة تفشي الوباء.

حالة الاستثناء، من النقاط المركزية في فلسفة جورجيو أغامبين، وهي لا تتعلق بوباء كورونا، وربما لكي يثبت الفيلسوف الإيطالي، أن الإطار النظري لفلسفته، يستوعب قراءة أي حدث مستقبلي، استعمل مفردات فلسفته في تشخيص وباء كورونا، كما أن وباء كورونا، فرصة دعاية، وترويج، لا تُعوّض، لمشروعه الفلسفي.

انتقد الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي، تعريف حالة الاستثناء عند جورجيو أغامبين، بأن الاستثناء في عالَم بلغتْ فيه التعاملات التقنية من الكثافة، ما يضاهي نمو الكثافة السكانية، أصبح هو القاعدة. الإجراءات الاستثنائية للدول، عندما تكتسح العالَم كله في غضون شهرين، لا تُسمى استثناءً.

لماذا لا يعترف الفيلسوف الإيطالي، أن وباء كورونا، أكبر من فلسفته، وأنه أخطأ في اختيار كلمة مُناسبة، لمُقاربة الموضوع. أليس هو نفسه كفيلسوف، يتعرّض لموضوع آني كبير، يُعد استثناءاً مزعجاً، كما كان أستاذه ميشيل فوكو، يُعد استثناءً مزعجاً، عندما وصف صعود الفاشية الدينية في الثورة الإيرانية 1979، بأنها روحانية سياسية؟

بعض صغار السن في إيطاليا، وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، الأقل عرضة للإصابة بفيروس كورونا، عززوا قيم الحرية، وتحركوا دون خوف، وبصقوا بمرح الحرية، لتهديد كبار السن بالعدوى، ماذا لو حمل أحدهم الفيروس، ونقله بلا مبالاة، للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، البالغ من العمر 78 عاماً؟

ماذا لو تعرّض الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين للمُفاضَلَة النازية، فيما يتعلق بتوفير جهاز التنفس الاصطناعي، إمّا هو البالغ من العمر 78 عاماً، أو سيدة جميلة، تُقدّر قاعدة الحريات الجامحة، وتبلغ من العمر 40 عاماً؟ هل سيعارض الفيلسوف إنقاذ السيدة صغيرة السن، بدعوى أن استثناء الحياة، لصغار السن فقط، يضرب قاعدة حقوق المساواة بين البشر، بصرف النظر عن أعمارهم.

ينتمي الفيلسوف جورجيو أغامبين إلى اليسار الماركسي، الما بعد حداثي، وهو يسار يعاني من انتكاسة شديدة طوال العقود الثلاثة الماضية، فآراؤه تكاد تتطابق مع آراء الليبراليين الجدد، فهذا اليسار يرمي كل الأزمات الكبرى على تقصير فادح في منح المزيد من الحريات، حتى وإن كانت تلك حريات غير مسؤولة.

المفارقة أن الإغلاق الاقتصادي، كابوس كل الحكومات، وجميع الدول تتعجل إعادة فتح الاقتصاد، أي أن الدول ليس كما يُصوّر الوهم للفيلسوف الإيطالي، ترغب في الاستثناء، لمد خيوط قمعها، بل هي كدول غربية ديمقراطية، أبعد ما تكون عن القمع، وقد تكون معضلتها، أنها بالغتْ، أو أفرطتْ في إعطاء الحريات على حساب القانون الوضعي.

اعتبر الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي، وهو صديق لجورجيو أغامبين، أن كتابة الفيلسوف الإيطالي عن وباء كورونا، انتهتْ إلى كونها مُناورة مُضللة، أكثر من كونها تفكيراً سياسياً. مُناورة تهدف إلى تسليط الضوء على الفيلسوف الإيطالي، المُصاب بجنون العَظَمَة.

منذ ثلاثين سنة تقريباً، كان الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في وضع اختيار حرج، لإجراء عملية زرع قلب، أو الاستسلام للموت. الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين نصح الفيلسوف الفرنسي، بعدم إجراء العملية الجراحية. لو صدّق الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي نصيحة صديقه، لكان في عداد الموتى منذ عقدين، أو أكثر.

يحكي جان لوك نانسي، البالغ من العمر 80 عاماً، حكايته الاعتراضية، في الرد على صديقه الإيطالي جورجيو أغامبين، ليوضّح له، أن نصيحته بعدم زراعة القلب، كانت خطأ، ولم تكن مفهومة، وشديدة الاستثناء، قياساً بتشجيع أصدقاء آخرين على إجراء العملية الجراحية. وبعد ثلاثين سنة، يقع الفيلسوف الإيطالي ذاته، في خطأ استثنائي شبيه، وهو تجاهل موت الآلاف، لنصرة حرية لا سقف لها.