الخميس 16 أبريل 2020 / 19:09

انتعاش الفاشيات الصغيرة

"الحرب الأهلية" هي البيت الآمن الذي تحن إليه هذه السلسلة المتدحرجة من جبران إلى جعجع وغانم وصحيفة الياس المر حيث يمكن تلمس شبح "إيلي حبيقة". هناك بالضبط وجدت نفسها وبنت مجدها وتشكلت بطولتها

استطاع اللبنانيون أن يظهروا خلال الشهور الطويلة لـ "ثورتهم"، قبل تدخل "الوباء" الذي بدا مثل رتل امداد طويل لصيغ الفساد والبنى المتهالكة للنظام الطائفي في بلادهم، قوة الأغلبية التي استعادت الكثير من مواقعها المخطوفة وتقدمت خطوات واسعة نحو فكرة الخلاص العميقة، حيث يرتهن الطائفيون أحلامها.

لم تنجح، وبدت مضحكة أمام تلك المجاميع، محاولات "جبران باسيل" لاستعادة ثقافة "التفوق" التي وصل على ظهرها إلى وزارة الخارجية وزعامة حزب طائفي انتهازي أوصله إلى الغرفة حيث ينام البطريرك في خريفه لا نهائي.

لم ينجح في دفع هذه المجاميع، وتغيير وجهتها إلى مخيمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين، بعد أن حملهم مسؤولية انقطاع الكهرباء وزحف النفايات إلى شرفات البيوت، وسرقة فرص العمل وتراكم نسب البطالة، ونهب أموال الخزينة وميزانيات التنمية.

حتى في صورته في غرفة صهره الرئيس، التي حرص على تسريبها كدليل على نفوذه، وهو يلقن الصحفيين الأسئلة المناسبة والرئيس الإجابات المطلوبة، بدا أشبه بحلاق وصل بالمصادفة إلى غرفة الجنرال النائم.

في الشارع ثمة "لبنان" لا يعرفه جبران باسيل وبقية "الأمراء"، لبنان يصعب التفاهم معه ولا يصدق قائمة الأعداء المعدة منذ الاستقلال والتي تنتقل بالوراثة، والملاحق التي أضيفت إليها مثل "التوطين" و"الإخلال بالتوازن الطائفي" وأشياء من هذا القبيل البائس.

ببساطة وقوة قال اللبنانيون إن هناك وطناً لا يشبه صيغة (جعجع/ بري/ الحريري/ جبران)، يتنفس تحت حكم الطوائف، وثقافة عميقة تتمتع بالأصالة وقيم الحياة النبيلة تتدفق تحت ثقافة ومبادئ "باسيل" العنصرية، ونزوعاً إنسانياً بشر به المثقفون اللبنانيون في العالم لا يشبه نظريات التميز و"التفوق الجيني" التي واصل التبشير بها "أمراء الحرب" وخلاياهم التي لم تنم يوماً، وواصلت حياتها متنقلة في جمل إنشائية بائسة تحت أقنعة السياسة وهياكل الأحزاب.

لقد وصلت الأغلبية اللبنانية وهي تسعى خلف حقوقها المسروقة على مدار عقود طويلة إلى غرف نومهم وأرقام حساباتهم، وتوافقهم وخلافهم في اقتسام أرزاق الناس وأحلام أولادهم وتوزيع ريع عملهم، وهو الإنجاز الذي لم يعد ممكناً التراجع عنه أو الالتفاف عليه كما جرت العادة.

هذا بالضبط ما لم يتمكن من فهمه شخص مثل "سمير جعجع"، يفتقر بشكل محزن الى أدوات استيعاب ثقافة "لبنان" الحقيقية، الثقافة التي جرى خطفها وتزويرها والعبث بفكرتها العميقة، التي جرى زجّها في قائمة الأعداء إلى جانب "اللاجئين" و"الحريات" و"الشفافية".
  
حاول "جعجع" ركوب موجة "الثورة"، أتردد كثيراً قبل استخدام المفردة والتشبيه، ولكنه لم يستطع أن يخرج من جلده، عاد إلى هيئته الأولى بمجرد أن رأى الشوارع والساحات التي بدأت تخلو من المتظاهرين بسبب "الوباء"، عاد إلى مشروعه الشخصي وثقافته الشخصية، في تحالف واضح مع الوباء، وطالب بإغلاق مخيمات اللاجئين الفلسطينيين لتخليص "لبنانه" من "الكورونا".

وهو ما تلقفه "أنطوان غانم" وصحيفة "الجمهورية" في الرسم الكاريكاتوري في ذكرى "الحرب الأهلية"، الكاريكاتير الذي شبه الفلسطيني بالفايروس، مع ميل واضح لشيطنة الفلسطيني والتلطيف من ملامح الفايروس، الأمر ليس مفصولاً عن مطالبة "جعجع"، بل لعله الترجمة الأكثر أمانة لفكرته.

"الحرب الأهلية" هي البيت الآمن الذي تحن إليه هذه السلسلة المتدحرجة من جبران إلى جعجع وغانم وصحيفة إلياس المر حيث يمكن تلمس شبح "إيلي حبيقة". هناك بالضبط وجدت نفسها وبنت مجدها وتشكلت بطولتها وربطت مصائرها بثقافتها.

سلسلة من الأيتام المفجوعين بغياب حربهم.

"الحرب" هي التي دفنها اللبنانيون وهم يعبرون الساحات والشوارع في "ثورتهم".

ثمة من يحاول، بدأب من ينقذ نفسه، إعادة احيائها.