قوات تركية وليبية في طرابلس.(أرشيف)
قوات تركية وليبية في طرابلس.(أرشيف)
الأحد 19 أبريل 2020 / 19:21

رهانات عثمانية في زمن الوباء

تركيا الأردوغانية تقامر بمصير السكّان المدنيين، في زمن الجائحة، ومصير ليبيا نفسها، كدولة مُوحدة، تحقيقاً لطموحات عثمانية لا تصب، بالضرورة، في مصلحة ليبيا والليبيين

تناولنا قبل أسبوع تحوّلات فرضها تفشي وباء كورونا المُستجد على أولويات الحقل السياسي في بلدان مختلفة في العالم العربي. ومع ذلك، يبدو الوضع في ليبيا وكأنه الاستثناء الذي يكسر القاعدة. فبدلاً من "التبريد" دخل الصراع، هناك، مرحلة جديدة من التصعيد العسكري في الأيام القليلة الماضية.

ولا ضرورة، في الواقع، للتذكير بمخاطر تفشي الوباء في مناطق تشهد صراعات مُسلحة، وتفتقر إلى وجود بنية صحية تؤهل السلطات الشرعية، أو سلطات الأمر الواقع، لتوفير المستلزمات، والمكافحة الفعّالة، وحماية السكّان.

فكل ما في الأمر أن التصعيد الأخير في ليبيا يُنذر بتقسيم وتقاسم البلاد بين قوى متصارعة استناداً إلى تمركزات جهوية وقبلية، وأن تركيا الأردوغانية تقامر بمصير السكّان المدنيين، في زمن الجائحة، ومصير ليبيا نفسها، كدولة مُوحدة، تحقيقاً لطموحات عثمانية لا تصب، بالضرورة، في مصلحة ليبيا والليبيين.

وأخطر ما في وضع كهذا أن التقسيم والتقاسم، في حالة الاحتراب الأهلي، هما النتيجة الموضوعية للفشل في حسم الصراع المسلّح لصالح أحد الطرفين المتصارعين. لم يكن الاحتراب الأهلي قدراً محتوماً في ليبيا، ولكن محاولة قوى الإسلام السياسي، مدعوماً من قوى خارجية، الاستيلاء على ليبيا ما بعد القذافي، وما نجم عنها من تداعيات داخلية وخارجية، هي التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن.

ففي أوّل انتخابات في ليبيا، ما بعد القذافي، لم تحقق قوى الإسلام السياسي نتائج يُعتد بها، وفي المقابل حصدت القوى الوطنية نتائج كبيرة. وكانت تلك مفاجأة من عيار ثقيل مقارنة بما حدث الانتخابات المصرية والتونسية التي شهدت صعود الإسلاميين بعد الإطاحة بمبارك وبن علي. والمفارقة المؤلمة، في هذا الشأن، وطالما نحن في سياق الكلام عن أولويات الحقل السياسي في زمن الوباء، هي وفاة السياسي الليبي البارز الدكتور محمود جبريل نتيجة مضاعفات الإصابة بالوباء في مطلع الشهر الحالي.

أسهم محمود جبريل في الإطاحة بنظام القذافي، وقاد "تحالف القوى الوطنية" في العملية السياسية في ليبيا ما بعد القذافي، وقد تصدّر انتخابات "المؤتمر الوطني العام"، وشكّل حكومة كان في وسعها تجنيب البلاد، والعباد، مخاطر الحرب الأهلية، ولكن وجود الميليشيات المحلية، ورهان قوى خارجية عليها، وتضافر هذه وتلك مع احتقان الحقل السياسي، وما تراكم فيه على مدار أربعة عقود، من العوامل التي أسهمت في عرقلة مشروعه لإخراج البلاد من عنق الزجاجة، وفي إخراجه من سدة الحكم، وحكمت عليه بالمنفى الإجباري، كما أدخلت ليبيا نفسها في نفق مظلم.

بمعنى أكثر مباشرة: ثمة الكثير مما يُقال عن التناقضات الجهوية، والتمركزات القبلية في ليبيا، ومع ذلك لا ينبغي غض النظر عن، أو تجاهل، الدور الرئيس لقوى الإسلام السياسي في جر البلاد والعباد إلى درك الاحتراب الأهلي في سياق محاولة للاستيلاء على الحقل السياسي، خاصة بعد فشلها في انتخابات "المؤتمر الوطني العام" في ليبيا ما بعد القذافي.

وهذا الدور هو الذي يوصل البلاد إلى حافة التقسيم والاقتسام على ضوء التصعيد الأخير. فتركيا الأردوغانية تدافع في ليبيا عن حلفائها الإسلاميين، وتقاتل في الميدان إلى جانب "حكومة الوفاق" بالمعدات العسكرية، والتدريب، و"الخبراء"، إضافة إلى آلاف من "الجهاديين"، الذين نقلتهم من سوريا إلى ليبيا. وقد كان هؤلاء، على الأرجح، العمود الفقري في عملية السيطرة على عدد من المدن غرب العاصمة طرابلس في الأيام القليلة الماضية.

ومع ذلك، ليس في موازين القوى، على الأرض، ما يوحي بأن "حكومة الوفاق"، يمكنها إلحاق هزيمة نهائية بالجيش الوطني الليبي، بزعامة حفتر، وملاحقته في الغرب الليبي. وليس فيه، أيضاً، ما يوحي بأنها تستطيع الحفاظ على، وتعظيم، ما حققته من تقدّم في مدن الساحل الغربي. لذا، لا ينبغي انتظار نهاية سريعة للاحتراب الأهلي، المدعوم من قوى خارجية، في وقت قريب، بل انتظار أن يؤدي استمرار القتال، دون نتائج حاسمة، إلى تكريس واقع التقسيم والاقتسام في ظل رهانات عثمانية لا تكل ولا تمل، حتى في زمن الوباء.