مكتبة شخصية (أرشيف)
مكتبة شخصية (أرشيف)
الإثنين 20 أبريل 2020 / 19:31

الفصحى الصامدة

كان هناك، في أواسط القرن الماضي تيار قوي ينتظر أن تتوزع العربية الفصحى إلى عاميات تغدو، مع الزمن لغات قائمة بذاتها. هذا ما صارت إليه اللاتينية واللغات القديمة جميعها، انتهت إلى عاميات تحولت إلى لغات كاملة.

صمدت الفصحى والدعوة الآن الى زوالها أقل اثراً إذا بقيت هناك دعوة. مع ذلك فإن كل شيء يتم في الخفاء واللاوعي

لم يكن هناك ما يمنع اللغة العربية من أن تسلك ذات المسار، وأن تكون لها ذات النهايات، والصحيح أن كل ما يجري يومذاك كان على هذا الطريق. جزء من الفنون وبعض الفنون بالكامل، كان ينزلق إلى العامية أو يبدأ منها.

الموسيقى العربية المصحوبة غالباً بالكلام، لم تلبث أن اقترنت بكلام عامي إلا في القليل.

المسرح لم يكن أمره مختلفاً، إذ إنه، بعد أن ألف قسماً منه، وفي البداية القسم الراجح، انتبه إلى أن التمثيل بالفصحى مزدوج، فهو هكذا تمثيل التمثيل. اللغة الفصيحة نفسها تمثيل ولا ترد إلى الواقع إلا بالتمثيل.

هكذا بدا المسرح باللغة الفصحى متصنعاً متحذلقاً، بل بدا، على هذا النحو اعتداء على المسرح وجراً له إلى حيث لا يعود هو، أي إلى استحالة المسرح وتعسره. ثم كانت السينما الحاضنة الألمع للعامية فهنا لم تحض الفصحى إلا بنصيب بالغ الضآلة، بينما صارت السينما متحفاً للعامية وتكريساً لها في الفن والثقافة، أي أنها نشرت العامية على كل المساحة العربية، ولدى كل العرب الذين وجدوها تتكلم مثلهم.

لم تحتف السينما بالعاميات فقط، لكنها خصصت من بينها العامية المصرية التي سارت، بفضل السينما في كل بلاد العرب، وصارت هكذا مألوفة لكل العرب ما يذكر بلهجة قريش، في القديم، التي صارت في ما بعد لغة لكل العرب.

إذن لم تكن هناك عاميات فقط بل كان هناك من بينها عامية غالبة. هكذا غلبت العامية على ثلاثة فنون رئيسية، الموسيقى، والمسرح، والسينما. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى الأدب، الرواية خاصةً، التي صار الحوار فيها، أكثر فأكثر، بالعامية رغم بقاء بعض الروائيين عند الفصحى. هذا عدا الزجل ثم الشعر بالمحكية، الذي لحق بشعر فصحى، واقتفى أثره وساواه في تطوره، وتحولاته.

هذه هي الفنون الأكثر سيرورة وتداولاً وشعبياً تعول على العامية وتعتمدها. كانت الطريق ممهدة للمحكيات لكنها لم تصل. لم تغدُ المحكيات مع ذلك لغات، ولم تغدُ، إلا في القليل لغة كتابة، فحين تكون الكتابة هي الحاملة للفكر وللأدب المكتوب تتجه غالباً إلى الفصحى، بحيث أن المحكيات لا تملك إلى الآن إملاء مجمعاً عليه في الكتابة.

مع الوقت تراجعت الدعوة إلى نبذ الفصحى واعتماد المحكيات، في حين أن أسبابها لا تزال قائمة. إلا أننا لم نجد على الأرض مقدمات وافية لها أو خطوات عملية على هذا الطريق. الأمر الذي لا يزال محيراً ولا تزال بواعثه خافية.

هل يرجع ذلك إلى القرآن الكريم الذي لأنه، كلام الله، يضفي على اللغة التي نزل بها، قدسية وحصانة بالغتين؟ هل يرجع إلى أن النبض القومي الذي أعقب بصورة خاصة سقوط فلسطين جعل مبدأ الوحدة غالباً، ما اقتضى التمسك بلغة واحدة للعرب هي الفصحى؟

هل يكفي هذا لتفسير صمود الفصحى واستمرارها لغة للكتابة في حين تبقى العامية للحكي، أم أن الكتابة بالفصحى هي التي تلقفت الاحتكاك بالغرب والتفاعل الثقافي معه، في حين أن المحكية لم تفعل سوى أن تأثرت ونسجت على منوالها، في الشعر خاصة، لكنها لم تنشغل بالفكر، والبحث، والأدب المكتوب وتركتها للفصحى.

على كل حال لم تلبث الفصحى أن وجدت أكثر من سند لها على الطريق، فحيثما كانت الكتابة كان الربح للفصحى. لقد دعمتها الصحافة، وعن طريقها تم ابتكار فصحى معاصرة وحديثة، أخذت تدخل في المحكية المدينية التي لا تزال في طور التكوين.

لا بد أن الراديو أيضاً كان داعماً فنشرة الأخبار في الإذاعات والتلفزيونات معرض للتفنن بالفصحى وابتكارها. لا شك أن الرواية التي استمرت بالفصحى مكان توليد وتجديد خصبين للمحكيات في حواراتها.

قلنا إن الفصحى بقيت للكتابة ولعل هذا ما جعلها تستمر وتقوى، حيث يكون للكتابة مكان. يمكننا هنا أن نجد لذلك قاعدة حتى في السينما، فالأفلام المستوردة وجلها غربي، تمارس الفصحى في ترجماتها. فصحى الأفلام المترجمة تكاد تستقل بنفسها، ففيها نجد ما لا نجده في مكتوب غيرها.

نحن في الأفلام المترجمة فقط نجد تعابير من مثل، أبليت حسناً، ما خطبك، تباً، على رسله. هذه من عربية الترجمات ولها بالطبع قراؤها المدمنون.

صمدت الفصحى، والدعوة الآن إلى زوالها أقل أثراً إذا بقيت هناك دعوة. مع ذلك فإن كل شيء يتم في الخفاء واللاوعي ولم يحسم الأمر بعد، ماذا سيكون مصير الفصحى بعد الحركات القُطرية التي هي طابع المرحلة.