الأديب الألماني توماس مان (أرشيف)
الأديب الألماني توماس مان (أرشيف)
الإثنين 4 مايو 2020 / 20:41

دكتور فاوست... اللعبة الألمانية

تعد رواية توماس مان التي ترجمها لدار المدى محمد الجديد قرابة الألف صفحة، لكن سيرة أدريان ليفركون الموسيقي المتخيل ليست عامرة بالأحداث لتستحق الألف صفحة. تكاد حياة ليفركون تكون رتيبة فقيرة لولا نهايتها.

توماس مان الذي لم يقدم في روايته الشاسعة نقداً موسيقياً محترفاً فحسب وموسوعة موسيقية، بل موسوعة لاهوتية فلسفية أيضاً. ما يجعل من الرواية أطروحة في الثقافة الألمانية

أما الذي جعل الرواية مجلداً بهذا الحجم، فهو ما تحويه من سير جانبية تخص كل من صادفه الموسيقي في تجواله ورحلاته الموصولة، في المدن والأرياف وفي ألمانيا وغيرها بالإضافة للوافدين عليه من شتى البلدان.

الرواية بما اشتملت عليه من ذلك، وهو كثير، تكاد تكون صورة للمجتمع الألماني المثقف بين الحربين العالميين وعلى أطرافهما. هذا المجتمع، هو أيضاً ألمانيا التي عند خسارتها للحربين وفي جنونها القومي، كانت، كما نستلهم من العنوان، تمضي عقدها مع الشيطان، مثلها مثل فاوست، ومثله أيضاً تستقبل كراهية كونية، وتفقد أي رحمة، وتستسلم للعنة الأبدية.

لا ننسى أن توماس مان كتب "دكتور فاوستوس" في أمريكا التي لجأ اليها من الغليان القومي الألماني الذي أدى إلى صعود النازية وانتصارها، وعاد إلى ألمانيا بعد صعود المكارثية في أمريكا.

الرواية التي دارت أحداثها بين الحربين العالميتين وعلى أطرافهما لا تخفي، وخاصة في نهاياتها، أنها رؤية للعنة الألمانية التي كان فاوست رمزها. فاوست الذي باع روحه للشيطان، كما تروي الحكاية الشعبية التي استعارها، بالإضافة إلى غوتيه، كثيرون في الأدب والتصوير والموسيقى.

نظل تقريباً في حيرة من عنوان الرواية الذي لا يطابق مسارها، لكنه في عدم المطابقة هذه، تثبت رمزيته الدامغة، ويلقي ظله على طول الرواية، إلى أن يخصص الروائي في نهايتها، فصلاً يعود به زمنياً الى الوراء إلى 1930، بعد أن كان اتصل الفصل الذي سبقه بخسارة ألمانيا الحرب العالمية 1945.

في هذه النهاية يدعو ليفركون الذي كان أنهى تأليف "نواح فاوست" ثلاثين شخصاً، بينهم أصحابه، بينهم أيضاً ممثلون عدة للثقافة الألمانية، ويلقي عليهم خطاباً يعترف فيه بأنه هو فاوست بكل تفاصيله "تزوجت الشيطان وعرضت نفسي عن علم للخطر" و"أنشأت وعداً وتحالفاً معه على أن يتحقق بمعونته كل ما قدمت لنفسي" أما ما وراء ذلك فهو يرجع الى الظرف الألماني، إلى ألمانيا نفسها، وإلى الفن المعاصر في تدهوره "أما أن الفن يتعثر وقد بات مفرطاً في العسر... وما عدا مخلوق الله البائس يعرف ما يأتي وما يدع في محنته فذلك، بلا ريب، ذنب العصر" "يجري الإنسان... وينطلق جامحاً في سكر جحيمي" "جعلت كل شغلي ورغبتي في السحر الأسود والتنبؤات والتعاويذ والشراب السحري".

في تلك الخطبة التي حملت القسم الأكبر من المدعوين على مغادرة القاعة، يحمّل ليفركون نفسه ذنوباً، هي عبارة عن كوارث أصابته يعتبر نفسه الآن مسؤولاً عنها. يتهم نفسه بأنه أردى بنظرة سامة إبنه الذي أحبه ورفض الشيطان ذلك، لأن ليس من حقه أن يحب بشراً آخرين بعد أن اشتراه الشيطان.

هذا الابن هو إسقاط على ابن اخته الذي أرسلته أخته ليمضي نقاهته عنده، بعد أن أصيب بالحصبة، وكان طفلاً ساحراً ملائكياً استحق لذلك تسميته بالجني. لكن الطفل أصيب بعد ذلك بمرض يعقب أحياناً الحصبة وأرداه، بعد أن كان فتن خاله ومع خاله جميع صحبه.

هذه الحادثة هي مع حادثة أخرى مدارها رفض فتاة لخطبته التي أرسل صديقه ليبلّغها إياها. خطبها الصديق لنفسه بعد ذلك فوافقت، الأمر الذي استفز عشيقته المتزوجة فأطلقت عليه الرصاصة وقتلته.

هاتان الحادثتان هما الحدثان الدراميان اللذان كانا صاعقين في حياة، كانت دونهما، هادئة رتيبة. فليفركون البارد المتحفظ الورع لا يفتأ يتجول وينتقل من مكان إلى مكان، بعد أن اختار لنفسه أن يكون موسيقياً، الرسالة التي هجر من أجلها اللاهوت. ليفركون الموسيقي المتخيّل الذي يمت، في تجدده وتمرده الموسيقي واحتفائه الحسي ومجافاته للمثالية، إلى شونبرغ.

كما يمت، في انفراده الجنوني، إلى نيتشه الذي كان أيضاً موسيقياً. وإذا كان ليفركون متخيلاً فنحن لا نعلم لمن تعود فعلاً قطع "رؤية نهاية العالم" و"السيمفونية الكونية" و"نواح فاوست" تلك المؤلفات التي قام توماس مان بشرحها حسب كتابتها الموسيقية وآلاتها.

توماس مان الذي لم يقدم في روايته الشاسعة نقداً موسيقياً محترفاً فحسب، وموسوعة موسيقية، بل موسوعة لاهوتية فلسفية أيضاً. ما يجعل من الرواية أطروحة في الثقافة الألمانية، فرغم أن توماس مان ضد الجنون القومي الألماني، إلا أن اعتداده بالثقافة الألمانية، وما يسميه في الرواية "الفضائل الألمانية" لا يخفى.